ننتظر تسجيلك هـنـا

 

 

 


الإهداءات



إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 05-30-2012, 06:28 AM
~ مشرف منتدى الاثاث والديكور المنزلى ~
Maged غير متواجد حالياً
Egypt     Male
لوني المفضل Darkcyan
 رقم العضوية : 36
 تاريخ التسجيل : Sep 2011
 فترة الأقامة : 4630 يوم
 أخر زيارة : 03-01-2018 (05:16 PM)
 المشاركات : 4,133 [ + ]
 التقييم : 10
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي وجه القمر .. ؟؟







حكاية التغلب على الآلام
وتحويل الانكسار إلى انتصار











إهداء
إلى كل اليافعين والشباب العرب
مع محبتي
طارق






وجه القمر


1 – حنين إلى الماضي

كلمة واحدة تثير مشكلة..
والمشاكل عادة تُعرف بداياتها؛ أمَّا نهاياتها فحدودها البحر..
انتقاده جريمة تستحق الاقتصاص، وإنْ كانت النتيجة قطيعة.. ومفارقة صديق وحتى حبيب.
الكلام عندما يسمعه المحب من حبيبه غالباً ما يكون سيد الكلام وألذَّه، ولو كان بارداً وصلباً وجافاً أحياناً.. أو ساخناً - بل لاهباً - في بعض الأحايين.. فهو أحلى كلام.. وأبرع ما يقال.. لكنْ عندما تتبدل الصورة؛ لا يعود الكلام سوى جرح على طريق.. والصورة لا تتبدل إلا في ظروفها..
لم يكن يوماً كما هو الآن..
الوحدة تملأ ذاته.. تشعره بضجيج ثائر وحنين آسر متواصل إلى ماض صاخب بذكريات لا تزول.
ربما هذا هو السبب الذي جعله أسير ذاته، وأسكنه فراغات زمن متعاقب يستجدي وجعاً ويغالي في صرامته.. والوجع المرصود - المرصوص بعناية - كامن في الأعماق.
والأعماق مكان تستقر فيه الأشياء المثقلة بأحمالها..
الأشياء التي ليس بمقدورها أنْ تسبح ولا أنْ تطفوَ على سطح الماء لتصل إلى الضفة بأمان..
وهذه الأعماق تسع كل شيء، تتراكم فيها السفن المحطمة.. الكبيرة منها والصغيرة..
وأحياناً تستقر فيها الطائرات العملاقة.. بعد أنْ تفقد هيبتها وقدرتها على الطيران والنجاة..
أمَّا ملوك الأعماق من حيتان وقروش ووحوش.. فعندما يحين أجَلُها فإنَّها تفرُّ من دفء العمق المظلم وتلقي بجسدها الضخم أمام الضوء المنثور، تغسل وجهها بلوحات من نور.. لا ترضى بأن يُسكِنها الموت في أعماق الأعماق.. لا تستسلم له ولا ترفع راياتها البيض.
فما أصعب فراغات الزمن.. التي تنبت من الأعماق.
تلك الفراغات التي لا يملؤها غير الألم..
ألمٌ متكرر متصاعد بلا تدرُّج.. كآلام مرض عضال مزمن لا يرجى شفاؤه، يرخي بثقله على الأحاسيس والمشاعر كلِّها حتى الثمالة.
ينقضُّ على المرء، ينسكبُ على المشاعر، يوقظُ في سُبات الأعماق ناراً متأجِّجه.. يُشعل في حناياه لهيباً لا ينطفىء.. فيتشظى قلبه، وتنكبتُ خيالاته، وتعصف في نفسه كل الرؤى المتهكِّمة. وقد قيل:


كفى حزناً للمرء ما عاش أنَّه ببين حـبـيـب لا يـزال يـروّع
فوا حزني لو ينفع الحزن أهله ويا جزعي إن كان للنفس مجزع
فأي قلـوب لا تذوب لما أرى وأي عيـون لا تجـود فتـدمـع
(جميل بثينة)


2- وجهٌ أسمر

وجْهٌ أسمر تفتَّحتُ وروده على بياض خدٍّ من طول معاداة للشمس..
شمس لم تعد تدخل داره بإذن ولا بغير إذن..
لا يَسمح لشعاعها بأنْ يتسللَ من خلف ستارة، لتلامس البلاط البنفسجي المزنر بالبياض، والمكحَّل بورد منشرح الصدر.. يتباهى بألوانه تحت الضوء..
في كلِّ زاوية من زوايا البيت طوق الماضي، وبقايا ثائرة حنيناً لا يتوقف، وتوقاً لا يعرف التناسي أو الهذيان..
منْ أيّ نسيج تُصطنعُ الذكريات.. ومن أيِّ صخْر تُنحت المدامع وتسكب العبرات؟
وكيف تتشكل في الضمائر هذه النوازع المرجانية.. شوقاً لمن نحب؟
والذكريات هي عادةٌ إدمانية مزمنة في النفس التوَّاقة إلى الأمس..
عادة ما تكون واهنة بسخاء، سامقة بدهاء..
تتعمْلَق في سفحها بتحفُّز..
قادرة على الصمود رغم الأهواء والصراعات والتحولات..
لكنّها ليست سوى جبل جليد يذوي شيئاً فشيئاً مع إشراقة كل شمس واصفرار قرصها، حين تقذف حممها على رؤوس الخلق بلا توقف ولا إشفاق..
غير أنَّ الشمس لم تدنُ بعدُ من هامة هذا الجبل الجليدي الشامخ.. الصامد في وجه تقلُّب الفصول.. المعانق بشوق حديدي وتداً راسخاً في الأرض، يعاند الريح، ويتثاقل على الرحيل.


3- أغلى الناس

طوال الفترة الماضية لم تكن لديه رغبة بلقاء أحد، أو الاستماع لأيٍّ كان.. وحتى إلى نشرة الأخبار من راديو السيارة..
تلك السيارة الفارهة الحديثة - التي ورثها عن أبيه - بلونها الأخضر المشع كلون عينيّ أمه.. ولون عينيه.. لم يجرؤ على قيادتها يوماً واحداً..
باعها بعد مدة قصيرة جداً من موت صاحبها.. فهو لا يريد القيادة.. ولا التنقل على الطرقات ومواجهة أمواج السيارات العاتية فوق الإسفلت..
السيارات شرٌّ مستطير.. والطرقات وحش خطير، سَلبا منه أغلى الناس.
وعندما يفقد الإنسان غواليه يتقمصهم، يعانق خيالاتهم في أشيائهم، في آثارهم التي تنبض بكل مرأى بهم.. تسقط أمامه معايير الزمن.. وتتوقف الحياة عند ماضيهم.. ويتجمد المستقبل لحظة فراقهم.




4 - سمات فريدة

شعره كستنائي ناعم ينسدل على خديه كشلال أسود هادر منسكب من علٍ على صفحة من صخر كلسي ناصع البياض..
عيناه الواسعتان مسكونتان بلون نبيذي معجون برغوة تطفو كحبات لؤلؤ منثور على صفحة ماء النهر.
جيده ترتفع فوق منكبين عريضين، وعلى جبينه تدور حلبة مصارعة..
لكنّه لا يعبأ بكل هذه السِّمَات الفريدة..
في حين أنَّ الشباب من حوله يدركون أنّه آسر لقلوب الصبايا بطلته البهيَّة.. وهامته السَنِيَّة، واعتدال قامته الفتية..
لم يكن زياد في سني عمره التي لا تجاوز الواحدة والعشرين مثل أقرانه الشباب اليافعين..
اللحظات النادرة التي كان يظهر فيها في الشارع الذي يقع فيه منزله لا تحدث دائماً..
فمنذ ذلك اليوم الحزين لم يخرج إلى الضوء إلا لضرورة.
كان خروجه يقلُّ بتدرج منتظم مع الأيام، حتى انقطع عن الظهور أمام النَّاس تماماً..
طلب من حارس العمارة التي يقطن فيها أنْ يؤمِّن له حاجاته الأساسية مرة واحدة في الأسبوع، دون تواصل مباشر بينهما، فحاجاته بسيطة متكررة، وليس عنده طلبات يومية جديدة..
حتى نوع الطعام كان يختاره الحارس له على مزاجه..
لم يعترض زياد يوماً.. ولم يشتهِ نوعاً محدداً من الطعام..
المهم أن تكون مع كلِّ وجبة (سلطة الخسَّ مع جبنة بلغارية) كما كانت أمُّه تفضِّلها..
ولو اضُّطر لحاجة ضرورية - ولا يحدث هذا إلا نادراً - كتبَ للحارس ما يريد على ورقة صغيرة ثم يعطيه إيَّاها من وراء الباب.
وعندما يأتي الحارس يضع الطعام وما يطلبه عند الباب.. ثم يقرع الجرس ويرحل..
في الأشهر الأخيرة لم يخرج سوى مرة واحدة أو مرتين فقط، ما دفع فضولياً من جيرانه في إحدى هاتين المرتين على اللحاق به والسير خلفه، ليشبع نهمه الفضولي ويكشف "سرَّه"..
الخطوات كانت دقيقة ومحسوبة..
دقائق عند الطبيب..
لحظات في الصيدلية..
وفي طريق العودة؛ زيارة إلى المقبرة.. ودموع عند قبري أمه وأبيه.

5 - اعتراض!

لم يكن بموقفه الصامت الحزين يسعى ليبدي اعتراضاً على مصيرهما..
وهل يفيد الاعتراض على حكم القدر؟
رضي زياد بقضاء الله وقدره.. لكنَّه لم يستطع التملُّص من عالم الأحزان.

شهور ثقيلة مرَّت على يوم وفاتهما..
منذ ذلك اليوم توقفت الحياة عنده.. وانتهى الزمن..
وما معنى الزمن من غير حياة يزيِّنها رفقاء يعيش الطير في عشهم..
وهل هناك حياة أكبر من أم؟ ورفيق أغلى من أب؟
وكيف ينسى الإنسان أجمل لحظات العمر دون أن يقف عند كل تفاصيلها وهنيهاتها، ويتسمَّر أمام شريط الذكريات التي تفنى ولا يبقى منها سوى صور، غالباً من تمحى مع مرور الزمن؟!
هي (جراح على الطريق) تندمل مع الوقت.. حتى جراح القلب تشفى.. وتبقى جراح الروح.
وكم من حبيب مات محبوبه فاستبدله بآخر بعد حين..
وكم فارق الناس من أحباء ومضت الحياة إلى الأمام بلا توقف وانتظار وانحسار..
هكذا هي الحياة: موت ونماء.. فرح وشقاء... انتصار وانكفاء..
فلا يمكن لموت أنْ يوقف الأرض عن دورانها.. ولا الشمس عن إشراقها.. ولا الكون عن اتساعه والبركان عن ثورانه..

6- إلى متى يا زياد؟

في الأسابيع الأولى التي أعقبت موت والديه تخاصم زياد مع بعض زواره الذين حاولوا برفق أن يبعدوه عن ظلِّ الموت الذي بات غارقاً فيه حتى التوحد..
كان صوته يعلو فوق صوت من يسديه نصحاً..
قالتْ له يوماً، في الذكرى الأربعين حيث اعتاد الناس على التعزية في مثل التوقيت من يوم الدفن.. كانت خلفه واقفة وظهره إليها ينظر ساهياً ساهماً إلى اللاشيء لا يريد عزاء ولا معزين: "أسابيع طويلة مرَّت.. فإلى متى يستمر هذا الحزن القاتم، والصمت الصارخ يا زياد.. دعهما.. دعهما يستريحان في جنتيهما.. هل تظن أنَّهما يسعدان بك وأنتَ على هذه الحال من القهر والذبول والانهيار".
كان هذا كل ما قالته جارته سارة بعد تلكؤ طويل.. ومرحلة من الصمت أمام رهبة الموت.. وتجنباً لهتك جدار العزلة التي ارتضاها لنفسه.
صوت هادىء عذب يسري كالنغمات..
ينساب عطراً ساحر القسمات..
كشذا وردة تحلِّق بوسامة الفراشات.
كتلة زهرية معجونة بالندى.. شواها حزن الحبيب بلهيبه أكثر من وقع الحدث المؤلم نفسه..
التفت إليها والحزن يغمر وجنتيه بدمع مثل جمر يسيل على برق..
أبعدها – كما ظنَّ - برفق ونأى عنها..
لم يدرك أنَّه بحركته التلقائية "العنيفة" هذه دفعها شديداً دون قصد..
جسدها الواهن الضعيف لم يقدر على الثبات أمام ردة فعله المفاجئة..
فوقعت أرضاً وسقطت كل العيون المزدحمة بالمكان عليها..
شكَّل تصرفه نحوها جرحاً عميقاً نازفاً.. جرحاً من (جراحات الطريق) التي تحتاج إلى وقت طويل لتندمل..
لا يريد الإقرار بأنَّ (الحيَّ أولى من الميت) كما يقولون..
وهل علينا أنْ ندفن ذواتنا تحت التراب من أجل من نحب، إذا ما قدَّر الله موتهم قبلنا..
هذا الزياد الذي يظهر للناس اليوم لم يعد زياداً الذي يعرفه أهل الحيِّ والأقارب والمحبون..
لم يعد بينهم من يتقبل تصرفاته الجافة القاسية الجارحة، فيما هم جميعاً يبدون له كل المودة والحب والمؤاساة..
فمهما كان الحزن عميقاً لا يوجد مبرر للإساءة إلى الآخرين..
يمكن أن يتفهم الآخرون صدمة الموت حال وقوعه، لكن لا يمكنهم الإذعان للموت وقبول استمرار صدمته ردحاً طويلاً من الزمن.. والبقاء في حالة حداد متواصل وخصام مزمن مرٍّ مع الجميع.
ومن يومها لم تعد تكلمُه، ولا حتى تسأل عنه..

7 - حب برئ.. لكن!

الجميع كان يعلم أنَّ حباً بريئاً نقياً صافياً جمع بين قلبيهما منذ الطفولة والصغر..
لكنَّ قلب سارة لم يقبل الإهانة..
لم تكن قادرة على تحملها.. فقد أهينت علانية.. وكثير من الناس كانوا مجتمعين في بيته، أغلبهم من الجيران والأصدقاء..
أبوه وأمُّه كانا يعتبران أهل الحي أسرتهم الكبيرة.. وكان زياد نجم الأيام الخالية.. يرتدي ثوب الممرض ويساعد والديه ما أكسبه خبرة طبية كبيرة وممارسة فريدة قلَّ أن يكتسبها من لم يدخل كلية الطب.. وكان والداه يخصصان الكثير من وقتيهما من أجل أبناء الحي..
أمُّه طبيبة أطفال وأبوه متخصص بالأمراض الصدرية.. يذهبان صباحاً إلى المستشفى، وعصراً إلى عيادتهما المشتركة.. وفي المساء يتحول بيتهما إلى عيادة مفتوحة لأهل الحي.. ليس لأنهم فقراء.. بل أصدقاء.
كانا حلمهما الكبير أنْ يصبح ابنهما الوحيد طبيباً مثلهما..
علَّماه الكثير الكثير عن الطب..
رافقهما في أصعب الأوقات..
أعطياه من علم الطب ما لا تعطيه الجامعات لطلابها.. وذلك قبل أن يكمل الثانوية ويدخل كلية الطب ويتخرج ليحقق حلمه وحلمهما بالذهاب إلى أوروبا للتخصص.. وتحديداً فرنسا.
فرنسا..
لا ينسى زياد فرنسا أبداً..
البلد التي جمعت أبويه في إحدى جامعاتها.. وحدث ما حدث..
لطالما سافر معهما إلى فرنسا، البلد الذي شهد حبهما وزواجهما.. وبعد ذلك ولادة ابنهما الوحيد بعد عشر سنين من الزواج..
كان يتذكر كلَّ اللحظات هذه ويعيش فيها ولها.. لا يريد أن ينساها... أو أن يتخلى عنها.. لا يريد أن تتكون لديه ذكريات جديدة لأحداث جديدة.. يعيش مثل شيخ عاجز، تفتحت أمامه أبواب الذكريات ونوافذها..
لم يعد لديه غير الماضي..
ذكريات نامت مع مرور الأيام، لكنَّها عادت واستيقظت والتقت في زاوية الحياة النهائية، حيث تستقر الأحداث في الأعماق، ثم تطفو على السطح عند استقرار الموج وخفوت سطوة رياح الحياة..
عاش بينهما عشرين سنة كاملة..
احتفلا معه قبل أسابيع من وفاتهما بعيد ميلاده العشرين..
ثم سافرا إلى فرنسا - لوحدهما لأوَّل مرة - للاحتفال بذكرى مرور ثلاثين عاماً على زواجهما.. كان لديه امتحانات في الجامعة.. كان يستعد للامتحانات الأخيرة في السنة الثانية بكلية الطب عندما وصلته أنباء من فرنسا..
"انقلبت سيارتهما على الطريق السريع.. وتوفيا ولاحقاً في المستشفى"..
علم من أحد الأطباء هناك أنَّ أمه وهي في لحظاتها الأخيرة كانت تردد: "زياد.. زياد.. زياد".

8 - دعوة الحزن

عبثاً يحاول الإنسان أن يبدل رؤاه أو يصطنع غير ما يستقر في ذاته وهواه..
عبثاً يتمرد على الواقع ويقاوم العاصفة..
ومع ذلك فإنَّ طبيعة الكون تدفع المرء إلى التحدي.. وعدم الاستسلام بسهولة.. هذا في الحالات المعتادة.. لكنَّ زياداً لم يكن واقعه مشابهاً..
صفات التحدي في النفس البشرية لم تعد مألوفة عنده.. فقَدَ كلَّ ما كان متعملقاً في قلبه..
جعل لبَّه خزانة للحزن وأغلق بابها، حقيبة الذكريات لم تعد تفارق ظهره..
استجاب لدعوة الحزن دون مناقشة.. وتناسى دعوات الفرح التي يبسطها له عمره الوردي ومستقبله الواسع الرحب..
سقط في واد سحيق على طريق الآلام..
ينظر إلى اللاشيء..
يسكن الفراغات، يعيشها..
يتماهى مع سقم الجراح ونزفها..
يتقلب على فراش الشوك البري المسنن.. لا يعبأ بالدم المسكوب.. ينادي الموت فلا يجده.
فكان حاله مثل قول الشاعر المهلبي:

ألا موت يباع فاشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي يخلصني من الموت الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد وددت لو أنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر تصدق بالوفاة على أخيه

9 – العميدة ميشلين

لا يحفل بكل الأشياء الجميلة من حوله والتي كانت ترسم له مستقبلاً وردياً.. تخلى عن الدراسة وعن كثير من الأمور التي كانت تربطه بالحياة..
الدكتورة دينا.. الطالبة المتفوقة في الجامعة التي كان زياد يدرس فيها، حاولت مراراً أنْ تعيده إلى مقاعد الدراسة حيث يجب أن يكون..
لكنَّها عجزت..
تكلمت مع عميدة الكلية الدكتورة ميشلين.. شرحت لها الأمر..
ذهبت العميدة بنفسها إلى بيت زياد..
لكنَّه لم يفتح لها الباب.
انتظرت طويلاً.. فهي تعرف زياداً، كان طالباً عندها في أحد الفصول.. زارته مع عدد من المدرسين الأطباء إثر الحادث للتعزية..
قابلهم بفتور..
لكنه اليوم لا يريد أن يفتح لها الباب.. فعادت حزينة..
كلية الطب حلم جميل يراود كثيراً من الشباب.. يتدافعون للفوز بمقعد فيها.. ولا يصل الواحد منهم إلى تحقيق هذا الهدف بسهولة..
لم يقرر التخلي عن الجامعة فقط.. بل عن كل شيء.. حتى أنَّه لم يسأل عن ممتلكات أبيه.. وتحديداً عن إيراد عمارة في شارع راقٍ في المدينة..
طلب من وكيل العمارة أنْ يضع نصف الإيجار في حسابه في المصرف.. وأنْ ينفق النصف الآخر على المحتاجين إكراماً لأبيه وأمه.. دون أن يدرك أنّ وكيل العمارة لا يفعل ذلك كما يجب..
صحيح أنّه كان يضع جزءاً من المال في المصرف في حساب زياد لكنَّ هذا الجزء لا يصل إلى نصف إيراد العمارة.. ولا حتى ربعها.. أمَّا الجزء الأكبر فكان يضعه في جيبه.. دون أن يخصص نصف الإيراد للمحتاجين كما طلب منه زياد.
وعلى أي حال.. لم يكن زياد يهتم بذلك.. تكفيه بضعة دولارات، ينفقها على شؤونه الضرورية.. حتى أنه لم يشتر ثوباً واحداً منذ وفاة والديه قبل سنوات.. ولم يضف قطعة أثاث جديدة إلى أثاث المنزل..
كل شيء على حاله.. ربما حرارة الهاتف هي الشيء الوحيد الذي تغير في المنزل.. فبعد أن كان رنين الهاتف لا ينقطع.. فصل زياد الهاتف عن حرارته.. وبعد مدة قطعت الحرارة من مصدرها بسبب عدم دفع الفاتورة المتوجبة.
لم يكن زياد مهتماً بكل ذلك بعد أن فقد أعزّ شيء في حياته..
بدا وكأنّه يريد أن يعاقب نفسه..
سمعه البعض يردد:
"لو كنت معهما في السيارة لذهبت إلى حيث هما الآن.. لا عيش لي بعدهما أبداً..".



10 - عودة سارة

بعد أسابيع على ذلك الموقف.. يوم دفعها بيده وانصرف عنها.. عادت سارة التي تصغره بسنة أو سنتين تطرق باب بيته.
الباب موصد مثل باب سجن حديدي طال عليه العهد، فترك الزمان على أطرافه آثار الهجر والنسيان..
كأنَّ الحُبَّ عندما نقرر كيف يكون؛ إمّا ناراً تأتي على الأخضر واليابس أو دخاناً يتبخر دونما عودة.. ألا ينفع الماء ينساب سلسبيلاً عندما يلامس الحياة برقة؟
شقُّة زياد في الطابق الرابع..
العمارة كبيرة وواسعة، وفي الدور الواحد عدة شقق متباعدة.. يربطها ممر واسع عريض..
وقفت صامتة تنتظر..
طرقت الباب مرة ثانية طرقاً أشدَّ من الطرقات الأولى..
لكنَّ الباب ظل صامتاً جامداً لا يتحرك..
لم يكن هذا الباب ليغلق في وجهها يوماً من الأيام..
كانت العيون تَبْرُق عندما تراها والشفاه تنفرج على ابتسامات عريضات..
هذا الباب الذي لم يفتح اليوم؛ كانت سيدة المنزل تستقبلها به بكل حب وعطف وحنان..
تدرك بضمير الأم إحساس ابنها..
تستشعر ذلك الودُّ المغزول في العيون.. الممتزج بالروح قبل القلب.. معاً..
أهلها وأهله من أعزّ الأصدقاء، عهد طويل من الجيرة والمحبة، يتزاورون يوماً بعد يوم.. لسبب أو دون سبب.. قبل توقف الزمان عند لحظات الفراق.
انتظرت..
وجهها في اتجاه الباب مباشرة.. تكاد تلتصق به وتمتصه إليها..
فجأة.. حركة وظلال من خلال عين الباب..
هذه العين السحرية التي تسمح للناظر من خلالها أنْ يرى الناس دون أن يَرَوْهُ..
هذه العين التي تكشف لسيدها الكثير.. وتخفي عن غيره الكثير..
دقَّ قلبها.. هذا القلب الصغير الهامس.. الساعي إلى الوداعة برفق وأناة..
ازدادت النبضات والدقات هلعاً..
ظنَّت أنَّه لو مرَّ أحد في المكان لسمع صوت قلبها الصغير..
هو على مقربة منها ويسمعها..
سرى في لبِّها شعاع من طمأنينة انطلق من الأعماق.. شعور محب غفر للحبيب زلاته..
همست بصوت هادئ حزين خافت:
"سامحتك يا زياد على ما فعلت.. كلِّمني قليلاً.. لا يجوز أن تبقى هكذا.. شهور مرَّت..
أنسيت كل شيء بيننا؟
سأذهب الآن وانتظرك في الحديقة نفسها التي كنا نلهو فيها في أيام الطفولة..
سأذهب إلى هناك مباشرة..
فلا تتأخر عليَّ..
الجو بارد وأخشى أنْ أصاب بالبرد والزكام".
صوتها مثل صوت حمامة صغيرة.. تتحرق شوقاً لحضن أمِّها التي غدت منذ الصباح تبحث عن طعام تسدُّ به جوعها الدائم الذي لا يدرك شبعاً ولا ارتواء، مع ندرة الحَبِّ وقسوة الطبيعة، وانقطاع المطر.. وتيبس الندى على الغصون.
خرجت سارة من العمارة بعد أن أودعت قلبها على عتبة الباب الموصد بإحكام..
موصد على الحياة والأمل..
لا شيء يبدو قادراً على أنَّ يثنيه عن منفاه الاختياري..
منفى لا يعرف زمناً يقف عنده.. ولا يمكن لأحد اقتحامه.. فهو القاضي وهو الحاكم وهو السيَّاف والمحكوم..
ما أجمل وجه القمر في صفائه وسكونه.. وجه ساكن صامت منير.. يسكن السماء، لكنه يلقي بجماله على الأرض وساكنيها..

تذكرت قول نزار في (خبز وحشيش وقمر):‏


عندما يولدُ في الشرق القمرْ..
فالسطوحُ البيضُ تغفو
تحت أكداس الزَهَرْ..
يترك الناسُ الحوانيت ويمضون زُمَرْ
لملاقاةِ القَمَرْ..
يحملون الخبزَ.. والحاكي.. إلى رأس الجبالْ
ومعدات الخدَرْ..
ويبيعونَ..ويشرونَ.. خيالْ
وصُوَرْ..
ويموتونَ إذا عاش القمر..


11 – نسيمات الشتاء الفاتنة

.. ومضت سارة تنتظر..
لكنْ.. دون أمل ولا رجاء..
في انتظارها تقلب الجو.. ثم صحا على نسيمات شتاء "ربيعية"..
نسيمات فاتنة لا تأتي إلا قليل.. من حين إلى حين بعيد..
الورود من حولها تستذكر ماضي الحياة..
"هنا لعبنا.. هنا أكلنا وشربنا.. هنا جرحت يديَّ عندما وقعت على الأرض، فساعدني زياد وأحضر منديلاً يمسح نقاط الدم.. كان يمسح الدم بيد.. ويغزل بالأمل فرح المستقبل.. باليد الأخرى".
"هنا زرعنا وردة..
وهنا افترشنا التربة..
وهنا ضحكنا كثيراً عندما كبرنا على لهو طفولتنا..
يا لطفولتنا..
وهل تنمو الورود على الأحلام.."..
"على غصن من أغصان تلك الشجرة جلسنا يوماً.. انكسر الغصن وهوى فهوينا معه.. كادت ضلوعنا تنكسر كما انكسر الغصن.. ضحكنا طويلاً من طيشنا".
"هناك..
آه.. ما زلت أذكر..
كم رششنا الماء على بعضنا بعضاً..
وفي مرة وقعت على التراب الممزوج بالماء.. فعدت إلى البيت وثوبي بلون جديد..
وما زلت أسمع صياح أمي واستنكارها حتى اليوم".
"وهذه الأرجوحة..
لها في ذاكرتي حكايات وحكايات..
هو يتأرجح..
أنا أتأرجح..
سباق على التأرجح مستمر..
وعندما كنا نأتي ونجد من سبقنا إليها.. نحزن..
اليوم هي تنتظر بشغف من تؤرجحه.. ومن يأتي ليتأرجح في مثل هذا اليوم البارد؟!".

في المساء ذهبت سارة إلى الطبيب، مرض شديد أصابها بعد انتظارها الطويل تحت المطر، كانت تحلم بقدوم زياد.. لكنْ زياداً لم يأتِ ولم يتحققِ الأمل..
الرياح والأمطار أكثر رأفة ممَّا لاقته من زياد..
الأمطار تهدأ من حين لآخر..
الرياح تمرُّ قربها.. تلامس وجهها بحنان ثم تمضي.. تعبث بشعرها المبلل بالماء.. تتركه يمرح بعد أن تداعبه بفرح..

12 - إصرار سارة

غابت سارة أياماً في بيتها لا تغادر سريرها حتى دنا شفاؤها ولم يكتمل..
أوَّل خروج لها كان إلى بيت زياد، وهي لا تزال في وعكتها..
بيت زياد يقع في العمارة المقابلة للعمارة التي تقطن فيها..
تطلُّ شرفة منزلها على نافذة صالة منزله.. التي باتت مغلقة على الدوام..
لا تضاء أنوارها منذ تلك الحادثة الحزينة..
هذه النافذة لطالما شهدت زقزقة العصافير.. وتنسيم الأزاهير..
والشرفات لا تطل فقط على الشوارع..
بل تطل على حكايات الناس، تخطُّ في كتاب الأيام حروفاً وجملاً..
أصيص النبتة الخضراء خفَّت عيدانها.. واصفرَّت أوراقها..
ثمَّ جفَّت وتفتتت وانتثرت.. وماء الحياة فيها تقرَّحت عروقها.. وتشققت.
وأنهار الأحلام تبدد هديرها.. وكلُّ الرؤى على الأحلام مرَّت وانقضت.. خفُتَ أوراها كما يخفت شعاع العمر في شمعة الحياة..
وما أصعب الحياة من غير أحلام ترتسم على ضفتي نهر.. وما أعتم الليل من دون قمر.
كانت تحلم أن تقول كما قيل لنزار:


هذا أنتَ، صاحبَ الصِغَرْ؟
ألا تزالُ مثلما كنتَ.. غلاماً ذا خَطَرْ؟
تجعلني.. على الثرى.. لُعْباً.. وتَقْطيعَ شَعَرْ..
فإنْ نهضْنَا.. كانَ في وُجُوهنا ألفُ أثَرْ
زمانَ طَرَّزْنَا الرُبى لَثْماً وألعاباً أُخَرْ
مُخَوِّضَيْنِ في الندى..
مُغَلْغِلَيْنِ في الشجَرْ..
أيَّ صبيٍّ كنتَ.. يا أَحَبَّ طفلٍ في العُمُرْ؟


وتحلم سارة أنْ يكون جوابه:
الله ما أكْرَمَها تلك الذِكَرْ
أيَّامَ كنَّا كالعصافير غناءً وسَمَرْ
نسابقُ الفراشةَ البيضاءَ
ثمَّ ننتصِرْ
وندفَعُ القواربَ الزرقاءَ في عَرْضِ النَهَرْ ..
وأخطُفُ القُبْلَةَ من ثغرٍ بريءٍ.. مُخْتَصَرْ ..
ونكسِرُ النُجُومَ.. ذَرَّاتٍ ونُحصي ما انكسَرْ ..
فيستحيلُ حولَنا الغروبُ.. شَلالَ صُوَرْ
حكايةٌ نحنُ.. فعندَ كلِّ وردةٍ خَبَرْ !..
إنْ مرةً.. سُئِلتِ قُولي:
نحنُ دَوَّرنَا القَمَرْ ..


13 - قريب سارة

زياد اليوم ينام على بساط في غرفة نوم أمِّه وأبيه التي تقع من الجهة الخلفية من المنزل..
يعشق هذا البساط القديم الذي يحمل ذكريات قديمة..
في خيوطه تنتظم حكايات الماضي التي تحتسي معالم الحب القديم..
لا يفارق جوار سريرهما إلا لحاجة..
يتأمُّل الغرفة وما فيها من أشياء ولا أشياء..
يتفحَّص الجُدُرَ التي عزف أبوه عليها صنوف الرسم.. بأنغام الريشات الملونات.
وفي جدار - إلى يمينه - وجه طفل سعيد..
وفي جانب علوي من الجدار نفسه صورة كبيرة لمجموعة أطفال يلتفون حول أبيه وأمِّه، يلوحون بأيديهم "فرحين" في دولة بعيدة، بثيابهم المقطعة التي لا تتناسق مع البسمات التي تبزغ من عيونهم قبل شفاهم وتشير إلى فرح ما..
زارا تلك الدول ضمن حملة طبية لعلاج حالات لا تجد من يعالجها..
كان زياد برفقتهما كالعادة..
في هذه الغرفة أسرار الحياة.. ثلاثون عاماً في هذه الغرفة..
يا لها من فترة طويلة في حساب الزمن.. لكنها قصيرة في حساب العمر.
راحت سارة تطرق الباب بيديها الواهنتين..
تطرق بشوق كمن يبحث عن ماء في صحراء.. عن شمس في سماء ليل.. عن وردة في صخر..
تريده أنْ يتفهم آدميتها.. أن يتذكر أنهما "دوَّرا القمر".
أنْ يُدرك أنَّها حزينة مثله.. أن يستوعب حزنها وألمها من أجله..
فهي لم تعرف الفرح منذ وفاتهما.. عيناها الدامعتان تشهدان على ذلك..
أبواه كانا أبويها.. كانا مثل نجمتين تضيئان في نفسها أحلام الحياة.. ومصابيح الأمل..
مثل ريحانتين تتنسم عبيرهما.. مثل ماء عذب يمر على الجراح فيطببها..
لكنَّ الحياة لا تعطي حتى تأخذ.. تعبر طريقها دون اكتراث بأحد..
تصيد بسهام الموت من تشاء وقتما تشاء..
قالت بصوت مرتجف تغلِّفه بحة البرد والزكام:
"افتح يا زياد افتح.. يكفي..".
رأت خياله يتحرك من خلف عين الباب..
قالت بصوت منخفض كيلا يسمعها الجيران:
"اسمعني يا زياد جيداً.. لي قريب يريد أن يتزوجني، يلحُّ على أبي كي يزوجني إيَّاه.. وأنا أرفض باستمرار.. انتظرتك في الحديقة قبل أيام لأخبرك بذلك، لكنك تركتني رغم البرد الشديد حتى أصبت بالمرض وكدت أموت، مكثت بالسرير طوال الأيام الماضية.. سأذهب الآن إلى الحديقة نفسها.. لا يهمني برد ولا زمهرير.. سأنتظرك اليوم أيضاً حتى ولو مرضت ودخلت المستشفى أو حتى القبر.. عليك أنْ تعلم أمراً واحداً: إنْ لم تأتِ هذه المرة سأقبل بقريبي عريساً لي.. لأنَّ عدم حضورك يعني أنَّك قطعت آخر أمل لي معك.. لا تتأخر.. سأنتظرك حتى غياب الشمس.. وبعدها سأنفذ - مرغمة - ما أخبرتك به"..
لم تكن سارة بهذا تهدد زياداً.. فليس هذا هو أسلوب المحبين..
لكنَّ والد سارة يريد أن يفرح بابنته قبل أن يموت هو أيضاً..
يريد أن يرى أحفاده منها..
أمّا زياد فلم يعد زياداً الذي تعرفه..
وهل على الإنسان أنْ يربط مصيره إلى ما لا نهاية بشخص قرَّر من طرف واحد وضع إطار محدد لحياته، دون أي اعتبار للآخرين؟!
وفي المقابل؛ فإنَّ زياداً أنهى كل عقد له مع الحياة..
لا يريد حتى أن يتنشق عبير الأرض.. ولا أن يفتح نوافذ البيت على الضوء.
ولو كان بمقدوره.. لسدَّ أنفه قبل أذنيه، وكمَّم فمه وكبل لسانه، وغطى بصيرته قبل بصره.. وقطع كل حبل يصله بالدنيا..
وجلس منتظراً الموت الذي قالوا فيه:

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي أرحني فقد أفنيت كل خليل
أراك مصيباً بالذين أودّهم كأنك تنحو نحوهم بدليل


14 - الوسادات الخاليات

بعد أيام..
ارتفعت الزغاريد في بيت سارة.. وانسابت الزغاريد تملأ تفاصيل الشارع..
الناس هنا يحبون الفرح.. يتشاركونه كما يتشاركون الهواء.. لكنَّهم لم يكونوا سعداء هذه المرة.. فقصة زياد مع سارة لا تخفى على أحد.. والكل متعاطف مع زياد.. فهو لا ينقصه حزن جديد..
وصل صوت الزغاريد إلى أذنيّ زياد..
دفنَ رأسه بين وسادات سرير والديه الفارغات.. وضع الوسادات على البساط يتنشق عبير ما فيها من أثر.. بللها بدموع سخيَّة لاهبة..
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تبللت الوسادات بدموع زياد..
الوسادات لونها بات شاحباً من كثرة دموع الليالي الغابرة..
لم يكن يغسلها حتى لا يذهب أثر والديه منها..
كان يشم رائحة والديه متشربة في كل تفاصيل المنزل..
فستان والدته ليلة عرسها ما زال في خزانتها الخاصة..
ارتداه في ليلة من ليالي الحزن.. كان جسمه الناحل الدّقيقُ المَهْزول؛ أرقُّ من جسم أمِّه في عرسها.. كان حاله كقول بشار بن برد:


إنَّ في بُرْدَيَّ جِسماً ناحلاً

لوْ تَوَكَّأْتِ عليه لانْهَدَمْ



وقف أمام المرآة يتأمل الفستان الأبيض الجميل.. المرصَّع بأنواع من الزخارف والأشكال الوردية والمذهبة والبراقة.. التي ما زالت تلمع رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على يوم العرس..
كان المشهد غريباً.. رجل يرتدي فستان عرس أبيض.. كان يحلم بأمه.. في كل أنحاء البيت ذكريات وذكريات..
كل شيء يوشي بالحياة بين أحضان أبويه.. لم يفرط حتى بعلبة البودرة التي تحتفظ بها أمه هدية أمها ليلة زواجها..
"عجيب أيَّها الزمن.. قبلتُ قضاءك وحكمك.. لكنَّي لا أستطع الخروج مما أنا فيه.. وسأبقى في ماضيَّ أحيا.. فلا معنى لمستقبل عندي دون أبي وأمي"..
لم تعد الحياة تستحق أن يحيا فيها.. ترى من أي نسيج صنعت مشاعره.. وهل يصل الإنسان إلى حيث هو، فيفني نفسه فيمن يحب.. كيف يمكنه التخلي عن كل الأشياء الجميلة في الكون، وينطلق إلى عالم الوحدة والتماهي، حتى الانصهار الكامل، والاكتفاء بتعذيب النفس في براري الوله الجارف بلا اعتبار.
نفس الإنسان لا تتقبل الصدمات بسهولة.. لكنها عادة ما تنحني أمامها، وتستسلم لقدرها..
هو لا يعترض على القدر.. بل راض به أشد الرضى.. وهذا هو الغريب.. فقد اعتكف مع الحزن لا يفارقه، وعانق أشباح الذكرى لا يغادرها.. حتى توارى خلف حجاب من خيال منتمٍ إلى واقع، في عباءة ذكريات.

15– وجه القمر

صورة والديه قرب السرير وهما يضحكان في آخر ذكرى زواج لهما؛ في حديقة مطعم باريسيٍّ شهير، حيث اعتادا أنْ يقضيا ذلك اليوم من كل عام، ما تزال في مكانها.
الصورة هذه مثل قمر لا يترك سماءه، يسبح في فضاء الكون يلهو ويلعب.. لكنَّ وجه القمر غاب عنه قبل زمن..
هل نسيَ القمرُ وجهه الحقيقي بوجوهه المتعددة المتكررة في روعتها من شهر إلى شهر.. ومن يوم إلى يوم؟!
زياد يذكر جيداً تلك الصورة التي التقطها بنفسه في ليلة مقمرة.. ومن كاميرته الخاصة..
يقال أحياناً: "مع أنك تملك ذكريات كثيرة؛ لكنك لا تستطيع أن تختار ما تتذكره.. فالذكريات هي التي تفرض نفسها وقتما تشاء".
أما زياد فيقول: "المشكلة أني مكبل بلا مساحات.. سائر بلا طرقات.. طائر بلا مسافات.. أقطع آلاف الأميال فلا أتجاوز حدوداً.. ولا أعبر طريقاً.. وأعود كسيراً مثل طير مذبوح.. كلاجىء بلا وطن أسكنه.. أو فرح يسكنني.. فأذبل".
"الذكرى السعيدة عندما تعجن مع آلام صاحبها، وتخبز في أفران قلبه المستعر شوقاً إلى الماضي.. تنتج خبزاً يفيض من حزن أحرقه لهب النزع الأخير".
هذه الصورة واحدة من صور نادرة لا يبدو فيها معهما.. كانا حريصين على أن يرافقهما إلى كل مكان يذهبان إليه.. كان يوقف المارة ويستأذنهم بتصويره معهما.. يحب ذلك.. يريد أن يوقف الزمن عندهما..
هذا الحب "البنوي" المسكون بالتشكُّل الوارف المظلِّل لكل الأحاسيس..
حب يستعصي على الفراق.. حب يغلب الحياة.. لكنَّه لا يقوى على مواجهة الموت والانتصار عليه.
وعندما يشتعل الحب تذوي المسافات.. وتعصف بالنفس نيران شوق تفيض بمشاعر لا حد لها..
ولعل هذا هو السبب الذي ولَّد في نفسه إحساساً بالذنب لا ينقطع..
ربما لو كان معهما لما انقلبت السيارة التي كانا يستقلانها..
ربما لو قادها بنفسه لما انحرفت عن الطريق وسقطت في الوادي..
كان يعرف أنّ بصر والده في الفترة الأخيرة أصبح ضعيفاً.. وخصوصاً في عتمة ليل لم يزره قمر.. وعظمه وهن، ولم يعد قوياً مثل السابق.
هذه الصورة تبكيه كلما نظر إليها.. تحزنه.. تصيبه بالأسى..
هو يعلم أنّ في الخزانة المجاورة كميةً كبيرة من الألبومات..
هل يصدق أحد أنّه منذ الحادثة قبل أسابيع طويلة لم يفتح باب هذه الخزانة ليلقي ولو نظرة واحدة على الصور القديمة التي تملأ مساحة واسعة منه.
"لا بأس.. لا يهم.. فكل الصور حية في ذاكرتي.. باتت اليوم تبدو وكأنها حدثت يوم أمس..".
الذاكرة تنتعش أكثر ما تنتعش عند توقف الأحداث وتجمُّد عقارب ساعة الحائط في اتجاه ما.. لا يوجد للذاكرة تاريخ.. ولا زمن.. ولا دقَّات..
لولا صوت إطارات السيارات التي تزعق على الطريق؛ لم يميّز بين ساعة من ليل أو ساعة من ضحى، فالستائر السميكة تحجب الواقع.. لكنها لا تمنع الذاكرة من التسلل والتمدد إلى حيثما تشاء.

16 - وكيل العمارة

من وقت إلى آخر يأتي وكيل العمارة ليسلمه بعض المال الذي يحتاجه..
يمشي متثاقلاً يجرُّ قدميه ببطء كأنه يسير نحو المقصلة..
في كل مرة كان يضع المال في مغلف لونه يختلف عن المرة السابقة، كأنَّه لا يريد أن يعتاد زياد على لون واحد.. كما أنَّ حجم المغلف لم يكن واحداً في كل مرة..
كان يسير برشاقة حمامة.. مع أنَّه ليس خفيفاً حتى ولا مثل ثور.. فهو صاحب هيئة ضخمة مثل جبل، وكتفين عريضين مثل لوح خشب مستو.. ووجهه طويل بدت عليه خطوط الزمن.. وتحت أنفه شارب رفيع يحتفظ به منذ شبابه.. يذكره ببعض أبطال أفلام الأبيض والأسود.. ذلك الزمن الجميل الذي مضى وانتهى.
يدخل العمارة دون أن يلقي التحية على حارسها..
وحارس العمارة رجل مثقف.. يقرأ كثيراً كي يجد حديثاً لائقاً يتحاور فيه من سكان العمارة.. معظم الصحف التي تصل فجراً إلى المشتركين فيها من سكان العمارة يقرأ تفاصيلها قبل أن يصعد بها إليهم صباح كل يوم.. ثم يلفتهم إلى الأخبار المهمة لكي يحرصوا على قراءتها..
يعلم أنَّ القراءة كنز من كنوز الدنيا..
وأكثر ما يأسف عليه أنه لم يتمكن من متابعة الدراسة بسبب موت أبيه وهو صغير لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره.. واضطراره للعمل حتى يساعد أمَّه وإخوته الصغار..
تعاطف كثيراً مع زياد..
فقد اختبر من قبله مشاعر الموت والفقد.. وأحسَّ بكل نار البُعد.. وهو يعلم أنَّ آلام زياد أكبر.. لكنَّ الألم هو الألم، سواء أكان صغيراً أم كبيراً.. وعلى من يصادفه أن يتقبَّله ولا يجعله لصيقاً به على مدى الحياة..
اعتاد الحارس على فظاظة وكيل العمارة التي ورثها زياد.. لم يكن يهتم بالأمر، بل يبادله النظرات نفسها.
يدخل المصعد مباشرة، يطلب الطابق الرابع.. يمشي بحذائه العريض، يضرب الأرض به كجندي محترف في يوم استعراض عسكري..
وعندما يصل إلى باب المنزل يقف للحظات، ثم يضع المغلف على بساط صغير أمام الباب الموصد بوجهه منذ فترة طويلة.. ويمضي بعد أن يطرقه طرقات خفيفة متتالية..
في هذه اللحظات يبدو وكيل العمارة وكأنه يريد أن يقفز بسرعة بعيداً.. وتختفي عنه تماماً رشاقة الحمامة التي بدت عليه..
كأنه يؤدي وظيفة مملة يريد أن ينتهي منها ثم يعود إلى أعماله الأخرى.
زياد لا يريد أن يلتقي بأحد من الناس..
وهذا الأمر لم يكن يزعج وكيل العمارة على الإطلاق.. بل يستهويه ويروقه كثيراً.. فلا أحد يحاسبه ولا أحد يسأله ما قبض وما أنفق.. وإلى أين يذهب نصف إيراد العمارة المخصص للخير؟.
شيء رائع حقاً أن يكون أصحاب الأملاك على هذه الشاكلة..
إنّه يريح عامله إلى أبعد حدود.. فلا يوجد من يحاسب ولا من يسأل..
وكيل العمارة لم يكن أصلاً مخلصاً لوالد زياد الدكتور رمزي، فقد كان الدكتور رمزي وزوجته الدكتورة صفاء مشغولَين دائماً بالمرضى، ما بين المستشفى والعيادة معظم ساعات النهار.. ثم تطبيب أبناء الحي في فترة المساء.. وقد منحاه كامل الحرية والثقة للتصرف بالعمارة وبجزء من إيرادها؛ لتغطية مصاريفها المعتادة.. وكان الدكتور رمزي يقابله من حين إلى آخر للاطلاع السريع على الحسابات..
أمّا اليوم فلا حسيب ولا رقيب. ما منحه كل المساحة الممكنة ليفعل ما يريد. وبطبيعة الحال لم يكن أهلاً للثقة التي نالها من والديَّ زياد، أمّا زياد فقد كان له شأن آخر..
كان وكيل العمارة مراوغاً مع والديَّ زياد.. اليوم هو حرٌّ من أساليب المراوغة.. التي هو بالطبع ماهر جداً بها.. وقد اكتسبته السنين والتجربة حنكة واسعة.. غير أنه لم يعد يلجأ إلى حنكته مع زياد.. فهو لا يعبأ بكل ما حوله..
وفي يوم تمكن بعد إلحاح من مقابلة زياد، أقنعه بتوقيع توكيل يمنحه حقاً بالتصرف الشامل بالعمارة الوحيدة التي يملكها زياد.. باعتبار أنَّ هناك إجراءات قانونية كثيرة يجب القيام بها، ومعاملات عديدة تخص العمارة كان يقوم ببعضها الدكتور رمزي شخصياً.. وزياد لا يقوم بها الآن..
ومنذ ذلك اليوم.. اختفى وكيل العمارة.. وقطع عن زياد الأموال الزهيدة التي كانت يحملها إليه من حين إلى آخر. لم يعد زياد يملك المال الكافي ليدفع حتى تكاليف الطعام البسيط الذي يحمله إليه الحارس إضافة إلى حاجاته الضرورية..
ولولا بعض المال الذي تبقى مما كان يأخذه أحياناً من إيراد العمارة ويوفره زياد في خزانته لما استطاع تأمين الطعام الذي يحتاجه مدة قصيرة من الزمن..
17 - قرار لا يتغير

مرت الأيام ثقيلة.. مع ما استجد من صعاب.. ومع ذلك لم يتخلَّ زياد عن قراره بالبقاء سجيناً في محبسه الاختياري داخل جدران البيت..
وتحديداً في غرفة نوم والديه.. التي لم يكن يفارقها كثيراً..
أهل الحي علموا بما اقترفه وكيل العمارة من جرم لا يحاسب عليه القانون.. لكنَّهم لم يقدروا على شيء.. فالأمر قانوني، ووكيل العمارة في الأصل محام.. وصاغ نص التوكيل بشكل دقيق جداً..
ومن أكثر دقة على الصياغة القانونية من المحامين... كما أن زياد لم يكن مستعداً للقيام بأي ردة فعل ولم يعد يقبل استقبال أيّ أحد من الناس..
وكيل العمارة باع بالتوكيل الشامل الذي لديه العمارة نيابة عن صاحبها لنفسه.. وهذا حقٌّ منصوص عليه في الوكالة، لم يلحظه زياد؛ لأنَّه أصلاً لم يقرأ نص التوكيل بدقَّة.. وحتى لو أراد ذلك لم يكن ليفهم ما في نص الوكالة من بنود معقدة، صيغت على يد مراوغ محترف.
لكنّ زياداً لم يعبأ بكل ذلك.. بل على العكس.. شعر بأنّ العمارة همٌّ وزال..
فماذا يريد من هذه العمارة؟
لم يكن يستفيد من إيرادها الكبير الشيء الوفير.. كما أنّه لا يريد أن يشغله أمر عن العيش في ذكرى والديه..
ببساطة مرَّ الأمر وكأنَّه لم يكن..
صار المال القليل لدى زياد ينقص يوماً بعد يوم..
الناس من حوله يدركون ذلك..
العم خليل صاحب الكشك القريب من العمارة حيث يسكن زياد لم يرد أن يرسل إلى زياد أية مساعدة.. وقد تكلَّم كثيراً مع أهل الحي في هذا الأمر.. وكان الجميع موافقاً على ذلك.. ومقتنعاً بضرورة أن يخرج زياد من المحنة التي هو فيها باختياره.. وأنَّ لديه اليوم فرصة لذلك.. طلبوا من حارس العمارة أن يتوقف تماماً عن تزويده بالطعام.
قالوا: "لو ساعدنا زياداً وأرسلنا إليه ما يحتاجه سيبقى في بيته كما قرر، ولن يخرج منه أبداً.. بل علينا أن نمنع عنه أية مساعدة حتى يضطر إلى الخروج".

18- اليد المجهولة

مضت أيَّام وأيام.. وزياد لا يخرج من بيته..
أهل الحي تساءلوا كيف يمكن لزياد أن يصمد على هذه الحال مدة طويلة!
لم يلحظ أحد أنَّ هناك يداً تحمل إليه من حين إلى حين قليلاً من الطعام تلقيه أمام باب بيته ثم تطرق الباب وترحل مسرعة..
لم يكن زياد يعرف من يفعل ذلك.
الأمر يثير الفضول فعلاً، "من ذا الذي يزودني بالطعام من حين إلى آخر!"
هو يعلم أن الحارس لم يعد يأتي منذ أن أنفق كل ما يملكه من مال.. فمدخراته القليلة ذابت مع الأيام.. أمَّا الرصيد البنكي فقد سحبه وكيل العمارة بالتوكيل الذي معه..
لم يستطع زياد اكتشاف سرّ اليد المجهولةِ.. ولم يكن هنالك وقت محدد يمكن من خلاله الانتظار ليكشف الأمر بنفسه.. وفي النهاية فكر بأنْ ينقل طاولة إلى قرب الباب، ويضع فوقها كرسياً يجلس عليه لينظر من خلال عين الباب، منتظراً مهما طالت فترة الانتظار..
مضت أيَّام وزياد يجلس هذه الجلسة لا يفارق عين الباب..
"ما أجمل هذا الصبي الصغير..
ترى ابن من هو؟
آه هذه أمه.. إنها جارتنا ثريا..
آه.. مضت فترة طويلة منذ رأيتها آخر مرة..
يبدو أنّه ابن جديد لها لا أعرفه.. عمره سنة تقريباً.. يبدو لطيفاً..
ما أجمل الأطفال".
يُفتح باب المصعد ويخرج منه رجل شديد بياض الشعر.. إنّه الدكتور رياض الأستاذ الجامعي.. "لقد شاب معظم شعر رأسه... كم هو جميل بهذه الشعرات البيض.. أتذكر ابنه عصام.. كان صديقاً لي وقد تخرج من كلية الحقوق أخيراً وأصبح محامياً..
حاول التحدث إلي مرات ومرات ورفضت ذلك..
كان يريد أن يخفف عنِّي لوعة الألم وشدة الواقعة.. لم يكن يعنيني ذلك كله..
أبي أكبر من أبيه.. أمي لم تنجبني إلا بعد سنوات طويلة من الزواج.. وقدَّر الله أن آتي إلى الدنيا ثم يتركانني وأنا في زهرة الشباب.. إنّه لأمر صعب حقاً..
ربنا يهنىء عصاماً بأبيه وأمه..
أذكر أنّ لديه ثلاثة أشقاء وأخت واحدة.. أظن اسمها دلال. ياااه.. كم مضى من أيام؟!".
يقوم زياد إلى الحمام.. وبعدها يذهب إلى غرفة والديه..
إنَّه يشعر بإرهاق الشديد جراء الجلوس الطويل والنظر من خلال عين الباب ومراقبة الجيران والتفكير المزعج..
يلقي بجسده المنهك على البساط قرب السرير ليرتاح بعض الوقت...
يسمع طرقاً خفيفاً على الباب..
ينهض بسرعة.. يلحق الصوت..
يفتح الباب.. كيس مليء بالطعام.. مستند إلى الحائط اللصيق بالباب.
ولا أحد هنا..
يخرج رأسه قليلا ليتفحص الردهة.. لا يرى أحداً..
راوده إحساس غريب لم يشعر به منذ زمن بعيد..
تنشق عطراً أنثوياً ملأ المكان..
هواء منعش تخلل لحيته الطويلة الخفيفة الشعر..
"يا لهذا الشعور الساحر.. لقد نسيته منذ فترة طويلة.. ترى من اقتحم علي خلوتي.. وبدد وحدتي.. وجعلني افتح الباب وأخرج رأسي للمرة الأولى منذ شهور؟".
19 – نافذة الدنيا
قفز من أمام الباب بعد أن تركه مفتوحاً دون أن ينتبه إلى ذلك.. أسرع نحو النافذة المطلِّة على مدخل العمارة مباشرة.. هذه النافذة مغلقة منذ وفاة والديه.. لم تفتح ولا مرة واحدة..
حاول استراق النظر من خلال فتحاتها الصغيرة.. لم تسعفه هذا الفتحات حتى أنه لم يتمكن من التقاط أطراف الطريق..
النافذة الموصدة تطل أيضاً على شرفة بيت جارته سارة..
"كيف افتحها.. مستحيل.. لكن كيف أرى من أحضر الطعام لي؟".
بصعوبة بالغة.. أدار زياد حلقة قفل النافذة..
أحدث ذلك صريراً قوياً..
الحلقة لم تدر منذ فترة طويلة.. ولم تتحرك من مكانها..
حاول أن يشقَّ شيئاَ قليلاً من دفتي النافذة بتؤدة بالغة، كأنَّه كان يخشى أنْ تفتح النافذة على قدر هائل من رياح عاتية..
كان يخشى حتى أن يدخل هواء الشارع إلى رئتيه..
لكنَّ خشب النافذة متلاصق ببعضه، ويستعصى عليه فتحه..
كان عليه أن يدفع بقوَّة أكبر..
شد زنده..
قرَّب كتفه..
راح يدفع بكتفه الأيمن بخفّة وبضعف.. ثم صار البطء يشتد، والضعف يقوى..
فجأة، ودون توقع.. وبدفعة قوية واحدة؛ اندفع الجانب الأيمن من النافذة بشدة حتى ارتطم بالجدار الخارجي..
أحْدَثَ الارتطام دوياً هائلاً في هذا الساعة الهادئة من ساعات النهار، جعل كلَّ من في الشارع وعلى الشرفات والنوافذ يوجهون أبصارهم - عفواً - نحو مصدر الصوت..
خرج العم خليل من كشكه ينظر..
ورفع الحارس رأسه ليرى مصدر الصوت..
نظرت الجارات والجيران من نوافذ البيوت..
تلاقت عيون أهل الحي مع عينيّ زياد.. في لحظات خارج الزمن المنصوص عليه في عقد زياد مع نفسه..
فارتد زياد من فوره إلى الخلف هلعاً من حياة.. دون حتى أنْ يجرؤ على الإمساك بالنافذة لإغلاقها من جديد..
امتصَّ هواء الخارج كل هواء الغرفة الساكن منذ زمن بعيد..
دخلت أشعة الشمس ولامست الأرض وبعض الأثاث.. كان النور دافئاً..
غمرت زياد مشاعر الماضي من جديد.. واتسعت حدقتا عينيه أكثر فأكثر وهو يرى أشعة الشمس تسقط على فازة قديمة، لطالما كانت أمُّه تملأها بالورود وتضعها على الطاولة عندما يجلسون معاً لتناول الطعام..
ملىء دهشة عندما قاده بصره إلى ما رآه قرب الفازة، كأنَّه كان مغيباً عنه منذ فترة طويلة جداً، ولم يلحظه من قبل - ربما - لضعف الإضاءة أو لقلة الاهتمام.. ورأى (سماعة) والدته طبيبة الأطفال وقد تكدس فوقها الغبار.. وكان غبار يلمع تحت الشمس..
لم يتمالك زياد نفسه أمام ما رأى.. فالذكريات جددت ثورانها.. لكنَّها هذه المرة واقع مرئي، وليست خيالات ورؤى.. إنّها أمامه ماثلة.. كل التفاصيل أمامه..
فهذه آله قياس الضغط ما زالت في مكانها.. وتلك أدوات أخرى وضعت بعناية..
كان أبيه يخطط للعودة من فرنسا خلال أيام قليلة.. لذا ترك أدواته دون أن يضعها في الخزانة.. كان يظن أنّه لن يتأخر في العودة.. مواعيده مع المرضى مسجلَّة على لوحة جدارية قرب مكتبه الصغير..
"زياد.. زياد..".
سمع صوتاً يناديه من الشارع..
إنّه العم خليل بلا شك.. فهو يعرف هذا الصوت تمام المعرفة.. لم يتوقف العم خليل عن مناداته..
"زياد.. اسمعني.. يا زياد.. رد عليّ"..
كانت هذه أول مرة منذ شهور طويلة يرى أهل الحي النافذة مفتوحة..

20 - الهروب إلى المجهول

بعد هذا الموقف الجديد؛ قرَّر زياد فجأة مغادرة الحي. وقد كان القرار مفاجئاً حتى لنفسه وغير متوقع.. كيف يمكنه أن يترك المكان الذي يضيء سحراً كلما استرجع ماضيه في جنباته..
انتظر الليل بصبر وأناة طويلين.. وعندما هدأت الأصوات وهجع الناس.. حمل قليلاً من أغراضه وبعض أشيائه ومضى.. مضى في ظلام الليل تحت وجه القمر دون أن يدري إلى أين يذهب؟
كان القمر رفيقه دائماً.. والقمر رفيق المتألمين والمعذبين والتائهين.. الباحثين عن الأمل في عتمات الليل.. نظر إلى القمر الذي كاد ينساه ولسان حاله يقول مثل الشاعر:


ماذايُريدُالسِّقامُمِنْقمركلُّجَمَاللِوَجْههِتبَعُ ؟

تأمل وجه القمر.. وتذكر سارة.. كم قضى من وقت يحكيان فيه عن القمر.. "ألسنا نحن من دورنا القمر".
فكر بالتوجه إلى مكان بعيد قريب من القمر.. إلى الشرق.. أو إلى الجنوب أو الشمال.. حيث يمكن أن يعيش دون أن يعرفه أحد وأن يذكره أحد بالماضي الأليم..
سار دون أن يدري إلى أين المسير.. ماضياً وراء القمر..
ومن وسيلة نقل إلى أخرى.. وجد نفسه في مكان ناء بين الجبال.. في مكان يكاد يصافح فيه القمر..
وجاء الصبح متأخراً تلك الليلة.. كانت الشمس تتلكأ في الخروج من سباتها..
توقف أمام بستان عنب.. تذكر أنَّ والده كان يحب أكل العنب الأسود كثيراً.. ويحثه دائماً على تناوله لفوائده الصحية كما كان يخبره دائماً..
زياد كان يدرك أنَّه لن يستطيع العيش بعيداً عن داره دون أن يعمل.. هو الآن مرهق وجائع..
فكر أنَّه ربما يستطيع العمل في هذا الحقل بجمع العنب..
اقترب من المكان.. ورأى رجلاً يتأمل العمال والعاملات وهم يجمعون العنب في الصناديق..
أدرك أنّه صاحب البستان أو وكيله.. اقترب منه في أدب وألقى التحية.. ودون مقدمات طلب منه عملاً..
نظر الرجل إليه باستغراب.. لا تبدو على ملامحه صفات العمال والفلاحين. رغم أنّ مظهره يوحي بأنه مشرَّد متعب..
ضحك الرجل وقال: "لا نريد هنا مدراء ولا مهندسين.. بل نريد عمالاً"..
التفت زياد حوله.. شعر بخجل من هذا التهكم..
كانت آثار الحسرة تغلف وجهه وقلبه.. قال بكبرياء:
"أرجوك يا سيدي.. أنا لا أطلب منك حسنة ولا صدقة ولا معروفاً.. أنا أبحث عن عمل.. أي نوع من العمل.. ومكاناً أنام فيه.. أنا محتاج إلى ذلك.. ومستعد للعمل دون كسل.. فإنْ كنتَ لا تريد أن أعمل عندك يكفي أنْ تقول ذلك دون سخرية".
راح الرجل يتفحص عينيَّ زياد.. ثم قال: "لعلك هارب من شيء ما.. من أنت وماذا وراؤك؟".
قال زياد وقد أصابه بعض التوتر بلغ قمَّة ملامحه، وزاد من حدة احمرار عينيه الغائرتين بانتفاخ:
"مع أنَّ هذا الأمر شأني الخاص وليس لأحد حقُّ بالتدخل فيه أو السؤال عنه؛ فإنَّ عليك أن تعلم يا سيدي أنَّه لا شيء سيء في ماضيي لأخجل منه..
أمَّا الآن فأنا احتاج فقط إلى قليل من طعام وكثير من نوم.. فمنذ يومين لم أتناول وجبة كاملة ولم أر للنوم لوناً..
لو كانت لديك فرصة عمل أكون شاكراً.. أو اتركني أتابع طريقي في سلام".
رقَّ قلب الرجل..
فرجال الحقل مثل الأرض.. يحبون الحياة ويُنبتون النبت من بذورها..
يسقون الحَبَّ بكل الحُّبِّ.. ويجمعون الغلال بحنان..
يصادقون التراب..
يغزلون من حبات الرمل أثواباً يرتدونها.. وعقداً لؤلئياً في صورة بهية كأبهى ما يكون الجمال..
هنا يتعلمون من الأرض كيف ينشرون نعمة الحياة.. بالرغم من قسوتها..
الأرض التي تفجر ينبوعها.. هي مدرسة تعلِّم الباحث عن الخير فيها معاني لا يتعلمها الكثيرون..
طلب الرجل من صبي يعمل في الحقل كان يمر قريباً منهما أنْ يحضر بعض الطعام من وجبات العمال..
ثمَّ قال لزياد بعد أنْ حضر الطعام: "اجلس يا بني تناول طعامك بسلام وأمان"..
اهتزت مشاعر زياد عندما سمع كلمة "يا بني".. ما أجملها من كلمة..
ثم تابع الرجل:
"اعتبر نفسك في أرضك ودارك.. بين أهلك وناسك.. الحق معك.. لقد كنتُ مخطئاً فاعذرني، كلْ طعامك ثم خذْ قسطاً وافراً من النوم، وبعدها نتحدث بهدوء، ونبحث مسألة العمل الذي تبحث عنه".
اطمأنَّ زياد للرجل.. وشعر بارتاح. وبعد أنْ تناول طعامه غلبه النُّعاس ونام على بساط الأرض الأخضر.

21 - حديث الحقل

مضى الوقت سريعاً..
استيقظ زياد بعد ساعات.. بعد مالت إلى الزوال..
جلس العمال يستريحون من عملهم يتناولون طعام الغداء..
رأى زياد قطعة كبيرة من القماش وضعت فوقه على جانب الشجرة كخيمة، ترد عنه شعاع الشمس.
شعر زياد براحة وأمان..
أحسَّ بحنان أبوي افتقده منذ زمن بعيد..
اطمأنَّ إلى الرجل.. وراح يخبره دون أن يسأله بعضاً من قصته..
الرجل كان ينصت باهتمام بالغ..
رقَّ قلبه عليه أكثر بعدما علم جانباً من حكايته..
شعر أن زياداً لو قضى في هذا البستان زمناً سوف يهدأ باله وتخفُّ عنه لوعة الفراق..
فكر أن ينصحه بالعودة إلى بيته وإلى جيرانه... لكنَّ الرجل كان حكيماً.. فعرض عليه العمل في النهار مراقباً على العمال في البستان، وأنْ يحرس المكان ليلاً مقابل مسكن وطعام.. وبعض المال.
زياد لم يكن يريد مالاً.. كان يريد مكاناً يأوي فيه مع ذكرياته..
ومضت الأيام.
قضى زياد بضعة أسابيع يعمل في البستان بجسده، أمّا عقله فمع أمه وأبيه..
وصار العمال أصدقاءه.. واعتاد حياة الحقل.. والاستيقاظ على ديك الصباح، وخرير الماء..
كلُّ يوم يمضي يعيد الحياة إلى نفسه.. بات يعتاد النسيان.. فما أجمل النسيان عندما يخفف الآلام ويفرش في قلب صاحبها أملاً جديداً لحياة جديدة يأتلفها..
نسج زياد صدقات جميلة مع العمال.. لم يعد حضوره بينهم مجرد علاقة عمل.. تناثرت مشاعر الحب والاهتمام، عوض منهم الكثير من المشاعر التي فقدها..
تذكر العم خليل.. وحارس العمارة.. والجيران كلهم.. طيف سارة ما يزال يملأ نفسه، فيتوهج صدره على جمار لم تذو يوماً..
ومتى تذوب جمار الحب في قلب المحب؟؟
هذه النار لا تطفئها أنهار الماء ولا عواصف الرياح.. بل تزيدها الأنهار اشتعالاً.. كوقود يمرُّ على شرارات يقاذفها بركان متفجر.. والرياح تزيدها تمدداً وتأججاً..
كان في معظم الوقت شارداً.. لم يكن العمال يسألونه عن سبب حزنه.. بل كانوا يتبادلون الفرح عندما يرونه يضحك ويبتسم..
ما أجمل أن يتشارك الناس أفراحهم وأحزانهم..
والجراح الكبيرة تشفيها المشاعر النبيلة..
شعر أنه واحد منهم.. يأكل معهم.. يعمل معهم.. نسي أنه كان طبيباً... أو كاد أن يكون..



21 – عودة الوعي

وفي يوم.. سمع صيحة كبرى.. من مكان في أقصى البستان..
أحد العمال جرح يده جرحا بليغاً وهو يحاول أن يقطع بالسكين غصنا يابساً لا فائدة منه..
أسرع العمال وركض معم زياد نحو الصوت..
كان الدم ينزف بغزارة..
أصيب الجميع بصدمة..
صاحب العمل غير موجود ولا توجد سيارة لنقل العامل الجريح.. والدم ينزف وينزف..
فاسرعوا واتصلوا بصاحب البستان لكي يحضر سيارة إسعاف بسرعة.
في هذه اللحظة..
استعاد زياد ذاكرته.. استعاد وعيه المفقود..
أحس بواجبه نحو هذا العامل الجريح..
لم يكن حد يعلم مدى خبرة زياد في الطب..
بادر بالركض نحو غرفة صاحب العمل.. وكان يعرف أن هناك حقيبة طبية للطوارئ..
دهش الجميع من حركة زياد المفاجئة.. وتساءلوا عما سيفعل؟!..
ظنوا أن العامل سيفقد دمه كله لا محالة ويموت.. فقد وهن جسمه ولم يعد يصيح من الألم..
أحضر زياد الصندوق وبدأ يبحث عن الأدوات التي يحتاجها.. وكان هناك لحسن الحظ أدوات خاصة بتخييط الجراح.. وبدأ يعالج الجريح الذي أصابه خدر من شدة الألم.. لكنه لم يعد يشعر بالإبرة وهي تغرز في لحمه وتخرج منه مرات ومرات.. حتى فقد وعيه تماماً وظن العمال أنه مات..
زياد صار يفكر بهذا العامل.. بأولاده.. لا يريد أن يصاب أولاد هذا العامل بمثل ما أصابه من حزن..
وبعد أن أوقف النزيف وخاط الجرح..
رمى بجسده على الأرض..
شاكراً الله لأنه استطاع أن ينقذ العامل من جرحه الكبير..
العمال من حوله أصيبوا بالدهشة.. وقفوا لا يتكلمون.. ينتظرون النتيجة.. وبعد فترة قصيرة.. عاد للمصاب وعيه.. وكان بحاجة كما يبدو لكثير من الدماء التي سالت منه.. فطلب زياد أن يحضروا له عنباً يأكل منه.. فهو يعرف قيمة العنب الغذائية..
وفي هذا الوقت وصل صاحب البستان ومعه سيارة أسعاف.. وتفاجأ بما حدث.. ثم قامت السيارة بنقل العامل لمتابعة حالته في المستشفى..
أدرك صاحب العمل أنّ ما فعله زياد لا يفعله إنسان لا يعرف بالطب..
فقص عليه زياد حكايته وكيف كان يساعد والديه في عملهما وأنه درس في كلية الطب لمدة سنتين.
نظر إليه صاحب البستان بحب وامتنان وقال بحكمة الشيوخ: "أدركتَ يا بني قيمة عملك.. وعلمك.. هناك كثير من الناس يحتاجون إليك.. وإن كنت تريد الوفاء لوالديك عليك أن تتابع طريقهما.. لا أن تعتزل الدنيا وتخاصمها"..


22 - العودة إلى الديار

خلص زياد من هذه التجربة بالكثير الكثير..
علم أنَّ الحياة تحب ولا يجب أن تتوقف.. وأنَّ عليه الانتصار لا الانكسار... ومهما كانت المصيبة كبيرة فإنَّ الحياة تمضي وتمضي بلا توقف واستسلام.. وهناك كثير من الناس يحتاجون إليه..
فكم من أناس يمكن أن ينقذهم كما أنقذ العامل فعاد إلى بيته وأولاده..
ولولا مساعدته لذاق أولاده المرارة نفسها..
عندها قرر زياد العودة إلى حيِّه قاصداً بيته.. والعودة إلى الحياة احتراماً لموت من يحب.. فليس هنالك مبرر لهذا الهروب الكبير..
وفي هذه اللحظة تذكر سارة..
أدرك أنَّه أخطأ كثيراً بموقفه نحوها..
لكنَّ الأمر انتهى.. ولم تعد هذه المسألة تحتاج لنقاش.. عليه أن يعود إلى بيته.. وأن يعمل وأن يعود للدراسة.. سيجد بين المدرسين من يساعده.. ولا سيما عميدة الكلية..
عندما وصل إلى الحي.. توجه فوراً إلى كشك العم خليل... كان العم خليل مشغولاً بتوضيب بعض الصناديق.. ناداه بنبرة محب..
التفت إليه العم خليل.. ولم يتمالك نفسه.. فرمى ما في يده من بضاعة.. ثم قفز من السلم الذي كان يقف فوقه.. وراح يقبل زياداً ويحضنه قائلاً: "أين كنت يا ولدي.. لقد اشتاقت إليك قلوبنا جميعاً"..
فرح زياد بهذه المشاعر العظيمة.. وأكد له أنّه الآن أصبح بخير.. ثم قال له إنه يريد الذهاب إلى بيته ليرتاح.. واعداً بأنّه سيخبره بتفاصيل ما حدث معه لاحقاً.. ثم همَّ بالانصراف..
فاستوقفه العم خليل وعلى وجهه علامات الارتباك وقال: "لا تذهب إلى البيت الآن.. تعال معي إلى بيتي نتناول طعام الغداء، لا شك بأنك جائع"..
لكن زياداً لم يستجب لدعوة العم خليل.. ومضى مسرعاً حتى وصل إلى مدخل العمارة، فأقبل عليه الحارس لما رآه وعلى وجهه ارتسمت أمارات الفرح..
ضمه إلى صدره قائلاً: "لقد عدت يا ابن الإحبة"..
وبعد أن طمأنَ الحارس عليه.. أستأذنه زياد للصعود إلى البيت..
فقال الحارس بحزن وبزفرة خرجت من أعماقه: "آسف يا سيدي.. لا يمكنك دخول البيت الآن.. لقد باعه (وكيل العمارة) بالوكالة التي وقعتها له.. ولم يعد البيت بيتك"..
صدم زياد من هذا الخبر.. فأمسك الحارس يده بحنان ثم أدخله إلى غرفته.
أخبره الحارس أن الوكيل عرض البيت للبيع.. وعندما علم الجيران بذلك لم يقبلوا بأن يشتريه أحد من خارج الحيِّ، فهم جميعاً لا ينكرون فضل والدك ووالدتك، ويحملون لهما ذكرى طيبة..
عرض كثير من الناس شراء البيت، وفي النهاية اشتراه أحد الجيران بسعر مرتفع.. لكنَّه لم يسكنه ولم يغيِّر به شيئاً.. وترك كل شيء فيه على حاله..
ثم قال الحارس بصوت مرتعش: "البيت الآن هو ملك رجل تعرفه جيداً... رجل أحبك وأحب أسرتك بصدق.. ويكن لك كل احترام". ثم قال: "لقد اشتراه أبو سارة"..
عندما سمع زياد اسم سارة.. اختل توازنه.. وسقط على الأرض مغشياً عليه..
23 – ... وأخيراً

وجد زياد نفسه مستلقياً عل كنبة في غرفة الحارس.. أراد رفع رأسه فشعر بصداع شديد.. سمع الحارس حركته فقدم غليه على الفور وأحضر كوباً من عصير الليمون الطازج.. وحبتين لصداع الرأس.. وطبقاً من (سلطة الخسَّ مع جبنة بلغارية).. فوجىء زياد بالطبق.. فما زال حارس العمارة يذكر ما يحب.. سمع الحارس يقول له: "كنت تذكر اسم سارة هذيانك.. واضح أنك ما زلت تحبها".
فقال زياد بعد أن شهق شهقة عميقة كادت تخرج معها روحة:
"وما نفع هذا الكلام اليوم يا عمي.. لقد ذهب الحلم.. وأخذ معه كل الأحبة"..
ابتسم الحارس، وتأمل عيني زياد طويلاً ثم قال: خفت أنك تغيرت.. لقد عدت إلينا.. زياداً ابن الدكتور رمزي والدكتورة صفاء.. عدت إلينا.. لأننا بحاجة إليك.. كما كنا بحاجة لوالديك".
أجابه بصوت كئيب: " لقد فقدت كل شيء".
اقترب الحارس من زياد وكأنَّه يريد أن يقول له سراً دون أن يسمعه أحد:
"أتذكر يا زياد الطعام الذي كان يصل إليك من حين لآخر.. في الأيام الأخيرة قبل أن تغادرنا فجأة؟".
قال بلهفة: "نعم.. نعم.. أذكر ذلك جيداً"..
"كان أهل الحي يريدون أن يمنعوا عنك الطعام ليجبروك على الخروج من عزلتك.. لكن يداً حانية مجهولة كانت تأتي خلسة وتضع الطعام وترحل.. كنت أراها وأغض الطرف.. كأني لا أراها.."
"قل لي بسرعة.. من.. من؟".
"إنها سارة يا زياد".
"سارة.. لقد ظلمتها كثيراً.. لقد كنتُ بلا عقل ولا وعي معها.. كنت مجنوناً عندما تركتها للتتزوج من رجل آخر..".
ابتسم الحارس ابتسامة رضا وسأله: "أما زلت تحبها؟.
"لا حق لي بذلك اليوم.. فهي الآن متزوجة.. لا استحقها.. لقد غدرتُ بها ورحلت.. ها قد عدت إلى الوجع والألم من جديد.. وكأن الألم لا يريد أن يفارقني يوماً".
قال الحارس بصوت مبتهج سعيد: "هدئ من ورعك يا بني.. واسمع مني هذا الخبر الجميل الرائع.. سارة ما زالت تنتظرك.. سارة لم تتزوج.. فسخت خطوبتها بعد أيام من مغادرتك الحي.. لم تستطع الزواج من أحد غيرك.. ما زالت تنتظر عودتك.. وقد اشترى أبوها البيت إكراماً لها.. فقد كانت صدمتها كبيرة"..
وقف زياد واجماً لا يستطيع الكلام.. وكأن الحياة عادت تبتسم له من جديد.. وكأنَّ الفرح يريد أن يبتلعه الآن.. قال الحارس: "وهناك أمر مهم أيضاً.. هل تذكر صديقك وجارك عصام.. عصام المحامي؟ قال لي إنه متأكد أنه يستطيع أن يعيد إليك العمارة التي سرقها منك الوكيل بغير حق، وحتى وإن كان معه توكيل منك صحيح وقانوني.. سيثبت أنه خدعك، وأنك لم تقبض منه ثمن العمارة.. وأنه سحب أموالك من حسابك دون إذنك.. وباع بيتك دون حق.. لا تقلق.. المحامي عصام يعتبر هذه القضية قضيته، وقد كان ينتظر عودتك ليباشر بالدعوة بتوكيل منك".
نظر زياد من نافذة غرفة الحارس.. راح يبحث عن شرفة سارة.. وكأنه لا يصدق ما يسمع.

(نهاية الجزء الأول)

 

الموضوع الأصلي : وجه القمر .. ؟؟     -||-     المصدر : منتديات حبة حب     -||-     الكاتب : Maged



 توقيع :


رد مع اقتباس
قديم 05-30-2012, 06:36 AM   #2
~ مشرف منتدى الاثاث والديكور المنزلى ~


الصورة الرمزية Maged
Maged غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 36
 تاريخ التسجيل :  Sep 2011
 أخر زيارة : 03-01-2018 (05:16 PM)
 المشاركات : 4,133 [ + ]
 التقييم :  10
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Darkcyan
افتراضي



1 – حديقة الطفولة
حديقة الطفولة خالية باستثناءالذكريات التي لم يخمدأوارها يوماً ما..
إن ذكريات الطفولة غالباً ما تأتي على غفلة، تسكب الماضي شلالات أمل، أو دفق بركان خمد منذ سنين.. ثم انفجر على ضربات القلب.
الأرجوحة في مكانها، تملأ فضاء النفسرقصاً وتأرجحاً..
حبال تمتد حتى تلامس جبهة السماء المتعاليةفوق بساط من غيوم رقيقة جداً، ومن خلفها تمتد نجوم الأمل،على جمرسخونة أنفاسه الساعية على عجل، يقلب ذا الكف وذا الكف، بحثاً بين خيوط سرابه الأول، عن "دعوة حزن" عاش أسيرها شهوراً طويلة، مستجيباً لجبروتها دون احتجاج، متقلباً على لهبها دون اعتراض..
كأنه يعاقب نفسه، يريد أن يطهرها من "جرم" لم يقترفه، وجناية لم يرتكبها.
قلبه يسكن سجن الماضي،وروحه لا تطيق الانحباس في فضاء بلا مدى..
[color=window****]ولولا حادثة البستان لما قفز فوق جدار التيه نحو التحرر والانعتاق..[/color]
ألمه بجرح سارة زاد لوعة فراق الوالدين.. صدمة العودة أطلقت من أعماقه صيحات كانت مكبوتة.. لم تكن سارة تستحق كل هذا القهر والقسوةوالعذاب.. لكنَّها لم تستسلم لآلام الحياة، لم تضعف مثله، بل كانت أقوى بكثير..
"لكنها لم تفقد والديها مثلي"..
فكر بصوت عالٍ..
تنبه إلىأنَّه في مكان عام، تلفت حوله..
"الحمد لله لم يسمعني أحد".
يبحث عن عذر حتى يبرر لنفسه.. الصدمة كانت قاسية، لكنها ليست مبرراً لكي يقسو على غيره ويعاقب نفسه، هاجراً دراسته، مبغضاًحياته وحياة من أحبه، والنتيجة فقد كل شيء، حتى إرث والديه التهمه من وثق به..فهدم الحزن ما قضى الوالدان عمرهما في بنائه.
كان حبه لهما سبباً في الإساءة لذكراهما، ولكل من أحبهم وأحبوه..
عندما تكون مشاعر الود مورداً للهلاك فما يغني الطبيب ولا الدواء؟
حاله كحال الشاعر القائل:

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة // فقل أين يسعى من يغص بماء؟
إن الحبَّ الذي يملأ الفؤاد تجملاً، يسطع بنورهإذاانطفىء كل سراج، فلا يبقى غير شعاعهمخترقاً ليل الألم، عاصراً من الجراح بلسماً، منتصراً على سراديب الظلام.
2 –الأرجوحة الخشبية

الوقت بات متأخراً بعض الشيء، والناس عادة لا تأتي إلى الحديقة في مثل هذا الوقت من الليل..
بياض خافت تسرَّب من بين غيم..
ألقى القمر وجهه على تلك الأرجوحة الخشبية، المزهوَّة بدقة الصناعة، أرجوحة ضمتها حكايات الطفولة واليفاعة.. طفولة تحكيها ورود الحديقة ببراعة..
"هنا لعبنا.. هنا أكلنا وشربنا.. هنا وقعتْ وجرحتْ يدها،فمسحتُ بمنديلي جرحها الدامي.. منديل احتفظت به سنين عديدة.. تركته في غرفتي بين أشيائي الحميمة".
"آه.. هذه هي الشجرة شاهد على طفولتنا..فيها غصن انكسر تحت وطأة ثقلنا بعد أن قررنا الجلوس عليه في عبث ولهو ولم نرحم ضعفه، فكسرناه ووقعنا من أعلى الشجرة، ولولا لطف الله لتكسرت أضلعنا كما انكسر الغصن.. ما أحلاها من ذكرى".
"هنا.. دورنا القمر.. وهناك رسمنا الصور.. وعزفنا مع الطيور أجمل الألحان.. فما أجمل القمر هذه الليلة، إنه يشبه ذلك القمر!".
"قالت إنها ستنتظرني هنا.. طال انتظارها دون أن آتي"..
"صبرتْ عليَّ ولم أصبر على جرحي.. نبشت كل ما في الكون من ألم، وكانت بلسماً قربي، ولم أعِ قيمة هذا البلسم".
"لا عذر لي.. لا عذر لي.. كيف أقابل الناس الذين احتضنوني بعطفهم بعد أن جافيتهم بقسوتي، أي ابن عاق هو أنا؟".
ظلَّ على هذه الحال يتقلب على جمر الأسى، يحاسب نفسه على ذنبها، مضت شهور طويلة، فقد فيها كل شيء، منذ وفاة أبيه وأمه، منذ تلك الحادثة الأليمة، من حقه أن يحزن، أن يبكي فقدان من يحب، لكن البكاء لم يكن يوماً حلاً لمشكلة، ولا ترياقاً لمعضلة..
كل الأحلام القديمة لم تكن سوى خدع على طرقات مزدحمة بالإطارات..
طرقات الحياة ملأى بجراح ساخنة..
تلك الطرقات حصدت أغلى غواليه.. الدكتور رمزي والدكتورة صفاء.
تثور في مقلتيه دموع متلألئة، تبرق على وهج لهيب ضوء تناثرت أضلاعه..
لم تكن هذه اللحظات سوى مهماز يقرح خاصرته المزنَّرة بالجراح.. الموشحة بالوجع..
يريد أن يبني جداراً بينه وبين نفسه..
عاد مقراً بأنَّ الأمل باقٍما بقيت الروح في الجسد، وأنَّالعطاءصنو الوفاء.. ومواصلة الطريق رغم جراحاته أفضل ألف مرة من الاستسلام.. لكنَّ، كيف يجبر المكلوم ما انكسر، وكيف يعالج السقيم قسوة الأيام..
التجمل دوماً هو ملاذ المحزونين، هو سبيلهم الوحيد للتحرر من قبضة الألم.




3- ذكريات الأمل

هنا الأرض اشتاقت لخطواته..
وهنا الفراشات تسمع همساته، وترسم في ناظريه ألوانها..
هنا الطفولة زرعت في نفسه أحلامها وآمالها، واتخذت من رحيق الورد عنواناً.. حتى تلاشت في نبضاته وتعطرت في..
هنا تفتحت ورود الحياة ورسما معاً أجملالذكريات..
تلك الذكريات التي يحملها زياد في مهجته، نسجها بخيوط ملساء وردية، فأزهرت في هذه الحديقةالوارفة، مطلة على ماضية.. بكل ما فيها من جمال ساحر جذاب..
ذكريات أمل متألق تنبعث بفرح وكبرياء كشقائق النعمان..
سار في أرجاء الحديقة، كان يشعر كأنها غابة وسيعة، رغم مساحتها المحدودة.. ومع سَيْره يقلِّب صفحات الماضي بشغف يريد أن يستكشف كل صفحاته التي قد تكون قد غابت عنه أو شابها بعض الضباب بسبب الغمائم التي تملأ فضاءات المحزون.. كتاب ممتلىء بالذكرى.. عالم من جمال يكتنفه فيض من الألم.
يتذكر– زمناً بعيداً - عندما كان أبوه يأتي بهوهم ما يزال في روضات طفولته الأولى، يضعه أمام اختبار الأرض.. أمام حب الوجود للوجود، واشتياق التراب إلى التراب.. هذا الذي منه أتى إليه الإنسان وإليه يعود، دون اختيار أو إرجاء.. هو في القدوم أم في الرحيلسواء، أشياء مكتوبة، ليس للإنسان فيها حيلة.
أدرك بحس البنوة أن الأبوة ليست نزعة تشبعية.. بل رغبة باستمرار حياة.. مثل شجرة تزهر وتثمر ثم تسقط أوراقها لميلاد جديد، لحياة عتيدة.. تعطي ميراثها دون اقتران ذلك بآنية نفعية، هكذا علمه أبوه من الأرض.. وهذا ما رآه على يدي أمه وأبيه وهما يعالجان المرضى..
نادرون هم من يعصفون في الحياة ويرسمون الأمل..
نادرون هم من يزيدون في الميزان ولا يخسرونه..
نادرون هم من يجعلون حياتهم شموعاً لينيروا دروب الآخرين..
لكن قدر الحياة أن تكونَ أعمار هؤلاء قصيرة، غير أنهم يثمرون..ويثمرون.. ويثمرون.
تعود النسماتُ البارداتُ، تمرِّغُ وَجْهَهُ المتلفح بالحُزْنِ، تحَاولُ أنْ ترفعَ عنه هذا اللثام، أن تجلوَ الهمَّ عن عينيه فيغدو كما كان..
خطوة العودة كانت البداية، وأي شيء يحتاج إلى بداية، فلا يمكن تغيير الواقع دون إرادة وإصرار، فالدنيا مهما أبدت من حسن النية، فإنها تخفي وجها عبوساً، وقديما قالوا:
ما زالت الدنيا دار أذى // ممزوجة الصفو بأنواع القذى
يجلس زياد على مقعد حجري فيشعر ببرودتهالشديدة.. يسرع بالقيام من مكانه،ويشرع بالبحث عن مقعد خشبي،يمتص برودة الليل أو جزءاً منها.. يلقي عليه بدنه المنهك.
فكر في ذلك:"الخشب قادر على امتصاص الشدة وتخفيفها علىمن يتلقاها من جديد، بينما الحجر - على قوته - ينقل البرودة ولا يمتصها، فينفر الجالس عليه، ويضطره للبحث - كما فعلتُ- عن مقعد غير حجري.. رغم ما يتميز به من شدة وصلابة، إلا أنه في النهاية بارد متحجر"..

4– عصامالمحامي

على وميض الذكريات المتوهجة يتناهى إلى سمعه وقع أقدام تطرق الأرض بحنان.. طرقات متتالية خفيفة غير متسارعة، لولا هدوء اللحظة لم يسمع صوتها.
ترى من يأتي الساعة غير القمر! يخترق حجب الظلام بضوئه، يؤجج نار الذكريات الباعثة على الأمل رغم كل فحيحها..
عصام.. يا للمفاجأة!
الجار المحامي والصديق القديم..
شاب مشتعل حماسة.. يطرق الأرض بحذائه الطويل، المرتفع من الأمام، بكعب عالٍ صلب.. وقامة مرتفعة وأناقة شبابية تعكس شخصيته الجادة..
يضم الصديق صديقه.
عصام يضم زياداً وزياد يضم عصاماً..
لوحة شوق عبث الزمان بطرفيها فتباعدا، ثم تدانت مسافاتها حتى التوحد..
ما أجمل الصداقة عندما تعود كما كانت، دون أنْ تذْبلَ أو تموتُ كما تموتُ الورود وهي واقفة على ساقها.. أو قائمة في إنائها..
إن صداقات الطفولة البريئة لا تموت بسهولة، لأنها قامت على الوفاء والصدق، ولم يأتها باطل من خلفها ولا من أمامها.. هي نسائم الحياة التي تملأ الوجود بالعطر عندما يسوء العمل، ويحتضر الأمل.
يتكلم عصام بفرح المتحمس بلقاء عزيز بعد فراق طويل: "أخبرني الحارس وأنا أدخل العمارة قبل قليل بعودتك، وأنك هنا في الحديقة؛ لم أستطع الانتظار حتى تعود، وضعت حقيبتي في البيت وأتيت على الفور..".
زياد يتمرد على كآبته، يفرح بصديقه، فتشتعل في عينيه أضواء الفرح.. ثم يقول مبرراً: "جئت إلى هنا قبل قليل.. عدت لأتذكر أياماً خالية، ليس لي حق بدخول منزلي.. فهو الآن ليس ملكاً لي..".
كان حاله يقول:
إنَّ حظي كدقيق فوقَ شوك نثروه // ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه

أمَّا عصام فيجيبه بأمل المحامي الواثق دائما بالنصر: "كل شيء يمكن إصلاحه.. لا ترهق نفسك يا زياد بكثرة التفكير، ولا تقلق.. فلكل مشكلة حل، ولكل أزمة فرج".
في بعض الأحيان يصبح الصمت أكثر تعبيراً وأزكى عبيراً وألذ تصريحاً.. فتسمو المشاعر وتنفتح كل مغاليق الأنفس، وتشرئب القلوب من بين أغصانها، وتمتد تيهاً وكبرياء..
أثيرٌهو الكلام!
إن التخفي وارد وراء قصائد ومعلقات مطلية بماء "مُذَهَّب"، إذا ماتبدَّل الزمان وصار الكلام مِنْ "كَذِب"، وأضحى شريفاً مَنْ كَذَبَ!



5–هروب مستمر
عصام على المقعد الخشبي الشارد نأياً عن المقعد الحجري البارد.. وقربه زياد جالس يتأمل لوحة السماء السمراء، على المدى المشغول بالقمر المستدير، والنجوم ولهى مغسولة بالشعاع المنير، تصارع السحاب المطلي بالفضة.. للبروز والتأنق على فضاءات اللوحة.
يخترق زياد حجب الصمت وعطر اللوحة المسائية المتحررة من القيود، معانقة نسمات الحرية: "تأخرتُ كثيراً بالعودة.. لقد كان الحدث مصيبة أقوى مني، وأشد من أن أستوعبها بسهولة، أردت الهرب من واقع أليم ألم بي من غير توقع أو إنذار".
هكذا تأتي حوادث الدهر فجأة، دون أن ترسل برقية إو رسالة إلى صاحبها، لكن عليه أن يتلقاها بصبر وأمل، وأن يتحمل قسوتها بشدة الإيمان، فلا شيء يخفف الألم أكثر من مجاراته.
"دعنا الآن يا زياد من هذا الحديث.. لا أريد مناقشتك في أمر قد مضى، أقدر المحنة التي مررت بها، وهي محنة أعرف كم هي شديدة الوقع، لكني لم أتفق معك على استسلامك أمامها..على أي حال؛ علينا الآن أن نفكر بالمستقبل، لا أنْ نظلَّ أسارى الماضي.. نحن أمام مشكلة يجب علينا حلها دون انتظار، ممتلكاتك التي نهبها منك وكيل العمارة تتطلب أن نحارب من أجل استعادتها، الجميع يعلم أنك كنت ضحية ذلك الرجل المخادع، وقد جمعت عنه الكثير من المعلومات، قد لا يكون الوقت الآن مناسباً للتحدث بهذا الأمر، لكني لا أريد أن نضيع المزيد من الوقت، يكفي الذي حدث حتى اليوم".
زياد يبدو هارباً من الواقع، ما تزال الحادثة ماثلة أمامه جرحاً نازفاً.. حتى بعد عودته، ما زال في رحلة هروب هائمة دائمة..
أخذ نفساً عميقاً.. كأنه يريد أن يمتص عبير المكان، أو يدخل الحديقة كلها في جوفه..
"أرجوك يا عصام، لنؤجل الحديث بهذه الموضوع، أنا لا يهمني كل ذلك الآن، ما قيمة كل هذه الأشياء بعد أن ذهب صاحباها، أنا من دونهما لا شيء.. لقد فقدت أجمل ما في الحياة.. وماذا بعد؟".
يرفع عصام منكبيه عالياً، وينفخ صدره متنهداً بعمق ثم يقول بصوت هادئ: "إنَّها إرادة الله..".
"معاذ الله أن أعترض على إرادته، أو أيأس من رحمته".
يقول زياد ذلك بكل الإيمان الذي زرعه في نفسه والداه..
"لا بأس.. الآن مرَّت شهور طويلة على تلك الحادثة، وعليك أن تبدأ من جديد.. نحن كلنا أهلك يا زياد، من ينسى فضل والديك على أبناء الحي، كبارهم وصغارهم، عودتك اليوم دليل تعافيك، دليل على أنك تريد إكمال مسيرة والديك، خاصة أنك كنت تدرس الطب مثلهما، الناس تأمل منك أن تقوم مقامهما..".
"لا أدري.. هل لإنسان أن يقوم مقامهما.. هذا محال".
يصغي زياد إلى صدى كلماته..
يلقي ببصره على زهرة منحنية الهامة تاركاً الصمت يجوب الزمان والمكان من جديد.. ينشره ليسكن ضفائر الأشجار وأفنانها.. ويمضي في البال سهماً حتى القلب..
"هيا نذهب إلى منزلي الآن، أبي سيرحب بك كابن له بكل تأكيد، يمكنك البقاء عندنا مؤقتاً حتى نجد حلاً لمكان إقامتك، إلى أن تستعيد الحق الذي سرق منك"..
"هل تعتقد ذلك يا عصام، هل يمكنني فعلاً أن استعيد ممتلكات أبي وأمي؟".
"هذا أمر لا شك فيه، هيا بنا الآن لنستريح وفي الصباح نتحدث".
6– وجه وقور
[color=window****]يسود مجدداً صمت بديع بليغ فيما يترقب عصام رد زياد..متذكراً قول الشاعر:[/color]
خلق اللسان لنطقه وبيانـــــه //// لا للسكوت وذاك حظ الأخرس
فإذا جلستَ فكنْ مُجيباً سائلاً //// إنَّ الكـــلامَ يزيِّن ربَّ المجلس
[color=window****]وقبل عودة الكلام؛ صوت نعال يشق عذوبة المكان بنهم، صوت شديد الوقع هذه المرة، حثيث الخطا بانتظام.. ينقذ زياداً من رده..[/color]
[color=window****]ثوان معدودات ولاح وجه يعرفه جيداً.. وجه وقور.. وجه لا يمكن أن ينساه، يحمل عناق الماضي بأمل الآتي.. حتى يذوبا معاً في انصهار الجداول والينابيع.[/color]
[color=window****]انتفض زياد واقفاً وكأنَّ صاعقة أصابته.. لم يكن متوقعاً قدوم نسائم الأحبة..[/color]
[color=window****]كأن الحديقة التي لجأ إليها بحثاً عن ذكرياته الهاربة باتت مقصداً لمن عرف الخبر.. [/color]
[color=window****]الحارس أبلغ والد سارة كما أخبر عصاماً، لكن والد سارة لم يصعد داره، خطا خطوات سريعة نحو الحديقة ما إن تبلغ الخبر..[/color]
[color=window****]من يصدق؟![/color]
[color=window****]يحمل في جيبه مفتاح شقة زياد.. [/color]
[color=window****]لم يتخلَّ عن المفتاح يوماً، كان يتوقع عودة زياد في أي لحظة.[/color]
[color=window****]يقبِّل زياداً بحب، فيبكي زياد كأن حاله يقول: [/color]
[color=window****]مهما كتمتُ لظى شوقٍ يؤرِّقني // قَدْ يفضَحُ القلبَ دَمْعُ العين أحْيَاناً[/color]
[color=window****]هذا المفتاح جديد، غير المفتاح الذي يملكه زياد، وكيل العمارة كسر قفل الباب ووضع قفلاً جديداً، أعطى المفتاح لأبي سارة بعد أن اشترى الأخير منه المنزل ودفع إليه مبلغ الشراء كاملاً..[/color]
[color=window****]يخبره أبو سارة أنَّ كل أغراضه ما زالت كما هي.. لم يدخل الشقة أحد خلال الفترة الماضية، وكان حارس العمارة ينظف المنزل من حين لآخر ترقباً لعودته.. [/color]
[color=window****]أبو سارة كان يبدي فرحة كبيرة بعودة زياد.. والداه كانا من أعزِّ الناس إليه، كما أنَّه يعلم مقدار المشاعر النبيلة التي كانت تربط بينه وبين سارة.[/color]
[color=window****]يد زياد لم تقترب من المفتاح المتدلي من يد تمتد أمامه مباشرة..[/color]
[color=window****]لا يريد أخذ المفتاح، لم يفتح يده ليتلقاه كما يجب أن يتلقاه.. يشعر أنَّ هذا البيت لم يعد بيته، أو ربما لا يريد أن يعود إلى تلك الذكريات التي تنبض بالألم، والتي ستحيي كل ما قد مضى من أحداث.. [/color]
[color=window****]لا يريد نبش الجراح.. لا يريد أن يتلمس أطراف الرماح المسننة.. لا يريد أن يبعث مارد الحزن في قلبه من جديد..فكل الأشياء في البيت تذكره بأبيه وأمه، كما أن البيت أصبح ملكاً ليغيره... وهو لا يستحقه.. [/color]
[color=window****]وقف أبو سارة ينتظر.. وطال انتظاره في لحظات صمت.. يملُّ منها الانتظار.[/color]
[color=window****]ما أصعب الانتظار.. [/color]
[color=window****]شهور طويلة وسارة تنتظر، والمفتاح ينتظر.. والمحامي ينتظر.. وأهلُ الحي لطالما سألوا وبحثوا عن زياد حتى ملُّوا البحث.. لكنهم لم يملوا الانتظار..تلك الحكايات التي تُحكى، جراح ساخنة على طريق الانتظار؛ تدمي القلوب، وتشعل شرايينها التي يبست وتصلبت من قسوة الزمان، ونزيف الشوق المتقلب على جمر اللظى المتأجج بلا خمود.. ولا احتضار.[/color]
7 – شقة زياد

[color=window****]"زياد.. خذ المفتاح وهيا بنا إلى بيتك". [/color]
[color=window****]قال عصام ذلك بصرامة المحامي تحت قوس المحكمة..[/color]
[color=window****]لكن زياداً ليس متهماً ينتظر حكم القضاء.. ولم يطلب من يدافع عنه.. أو من يملي عليه تفكيره..[/color]
[color=window****]لم يكن قادراً على مواجهة الواقع من جديد، كأن فقدانه البيت كان أمراً مطلوباً منه. [/color]
[color=window****]يعترف زياد بضعفه، بأنه يتمنى دخول شقته من جديد مالكاً لها، لكنَّالشّقة الآن ليست ملكه.. [/color]
[color=window****]يصر أبو سارة على ذلك.. "البيت ما زال ملكاً لك، أنا اشتريته حتى لا يبيعه الوكيل إلى شخص لا نعرفه، اشتريته واحتفظت به من أجلك..".[/color]
[color=window****]زياد يعرف أن أبو سارة لا يملك كثيراً من المال، يدرك أنه قد يكون استدان لكي يشتري شقته، وعندما سأل الحارس عن ذلك أخبره أنه اقترض من البنك بعد أن باع أرضاً صغيرة كان يملكها في قريته البعيدة عن المدينة، لكن قيمتها لم تبلغ نصف قيمة الشقة، فاضطر لاقتراض ما تبقى من سعر الشقة حتى لا يفقد زياد شقته.. وتذهب إلى غريب لا يعرفونه.[/color]
[color=window****]ليس في الحياة ناس كثر يفعلون ذلك، هو يدرك أن لسارة دوراً كبيراً في هذا الأمر، ويعلم ما تختزنه سارة في قلبه من حب له.. ومع ذلك لا يريد الآن العودة إلى شقته.. كأنها مسكونة بالألم.. مغلولة بالعذاب.. [/color]
[color=window****]يقطع تفكيره سؤال: "وأيْنَ سَتسكنُ إذن؟".[/color][color=window****]. [/color]
[color=window****]سأله أبو سارة باستنكار.. [/color]
[color=window****]"على سطح البناء غرفة مع ملحقاتها، كان أبي يستخدمها أحياناً كمخزن لبعض الحاجيات، أعتقد أن الوكيل لم ينتبه لها، وهو في الأساس لا يستطيع بيعها لأنها ملك للعمارة كلها، سوف أنظفها وأستقر بها مؤقتاً، حتى يأتي الفرج القريب بإذن الله..". أجاب زياد بهدوء وأدب.[/color]
[color=window****]وأمام حزم زياد، ورده الذي ينبئ عن قرار وليس عن استشارة، لم يكن بيد أبو سارة حيلة.. وكتم شيئاً من الغضب يشبه غضب الأب الطيب الودود على ابنه البار المحب.. [/color]
[color=window****]كان يشعر بخيبة أمل.. [/color]
[color=window****]إن ما فعله من أجل شراء الشقة لم يحظ بتقدير زياد.[/color]
[color=window****]لم يستطع الكلام بعد ذلك.. [/color]
[color=window****]تراجع خطوتين الى الوراء، ثم هز رأسه غير راض، ومضى عائداً مكسور الخاطر.[/color]
[color=window****]"ما فعلته يا زياد كان خاطئاً.. هو اشترى البيت من أجلك أنت.. وأنت ترده خائباً"..[/color]
[color=window****]لم يتكلم زياد ولاذ إلى الصمت.. أما عصام فلم ينتظر جواباُ بل غادر المكان غاضباً هو أيضاً وتركه وحده على المقعد الخشبي.[/color]
[color=window****]هكذا تمضي أيامنا، نظن أن قراراتنا تكون حكيمة دائماً، فيما نرى في قرارات الأخيرة أقل حكمة، فلا يعي الإنسان خطأه إلا بعد فوات الأوان، فيندم، ولات حين مندم.[/color]




8– المسكن الجديد

[color=window****]استقر في "غرفة السطوح".. [/color]
[color=window****]السطح هو الملاذ الأخير للفقراء والحالمين، فليس أمَامه الآن خيارات كثيرة، القرار الوحيد بالنسبة إليه، والذي يحفظ له "كبرياءه"، هو السكن في هذه الغرفة المتواضعة، متخلياً عن شقته القديمة التي أبى أن يسكن فيها، بعد أن فقدها ولم تعد ملكاً له.[/color]
[color=window****]السطح كان مزدحماً بالصحون اللاقطة، ومساحة التحرك كانت محدودة جداً لضيق المكان.. [/color]
[color=window****]الجدران متآكلة، تحتاج إلى إعادة ترميم، وإلى صبغ جديد، كما أنَّ كل شيء في الغرفة غارق في الغبار والرطوبة، فالغرفة مغلقة منذ موت والديه في تلك الحادثة الحزينة، لم تر الشمس ولم يدخل إليها الهواء.[/color]
[color=window****]ساعات قليلة مضت وهو يقوم بترتيب الغرفة وتأهيلها.. [/color]
[color=window****]أبو سارة أحضر له بعض الأغراض الضرورية من منزله رغم كل الحزن الذي خلفه زياد في نفسه، فهو يعرف مقدار كبرياء زياد.. كما أنه كان يريد أو يشعره وكأنه واحد من أفراد من أسرته، فدعاه إلى الغداء في بيته.. لكن زياداً تحجج بأنه يريد إنهاء العمل في الغرفة لكي يستريح فيها باسرع وقت.[/color]
[color=window****]جميع سكان العمارة زاروه للمساعدة، أهل الحي كانوا سعداء جداً بعودة زياد، وقام عدد من كبار السن بزيارته والترحيب به، وكانوا نادراً ما يجلسون على السطح، إمَّا تحت الشمس وإمَّا تحت القمر، في فضاء السطح المكتظ بأجهزة الالتقاط الفضائي...[/color]
[color=window****]عرض عليه بعضهم أن يسكن في بيوت يمتلكونها، لكنه كان يعتذر بلباقة، هو يعرف أن الخير لا يضيع، وأن فضائل أبيه وأمه على أبناء الحي كثيرة، والوفاء طبع في الناس البسطاء الطيبين..هو اليوم غير زياد الماضي، عندما كان يستقبل الناس بجفاء، بل على العكس، هو يريد أن يبين لهم أنه ابن أبيه وأمه، وأنه امتداد لهما..لا يريد الإحسان.. فالكريم إذا أصابته نازلة كان عفيف النفس عديم الطلب.[/color]
[color=window****]التقى في يومين معظم سكان الحي، كثير من الفتيان والشباب جاؤوا لمساعدته، حتى أنهم قاموا بإعادة ترتيب الصحون اللاقطة وجعلوها متناسقة متدانية، حتى يوجدوا أمام غرفة زياد مساحة مناسبة تكون مثل ساحة استقبال..[/color]
[color=window****]العم خليل كان يحضر هو أيضاً بعض السندويتشات والمشروبات الخفيفة من حين لآخر..[/color]
[color=window****]عدد من شبان الحي الماهرين قاموا بمساعدته في صبغ جدران الغرفة من الداخل والخارج.. فكان لونها زاهياً لامعاً، وبدت جدرانها بأبهى ما تكون.[/color]
[color=window****]من كان يفهم بالسباكة أصلح له ما يلزم، ومن كان على دراية بالكهرباء جهَّز له الإضاءة المناسبة.. وخلال فترة وجيزة أصبح المكان لائقاً بزياد؛ ابن الدكتور رمزي والدكتور صفاء..[/color]
[color=window****]أمَّا المحامي عصام فكان يزوره من وقت إلى لآخر.. [/color]
[color=window****]وفي إحدى الزيارات طلب منه أنْ يوقِّع له على توكيل أمام المحكمة لرفع قضية ضد وكيل العمارة الذي باع ممتلكاته بالحيلة.. زياد قال لعصام إن له حرية التصرف بالأمر.. لم يخش أن يوقع له توكيلاً.. لأنه لم يعد هناك ما يخسره..[/color]



9 – زاوية السطح

[color=window****]الأيام ت[/color][color=window****]عبر أمامنا[/color][color=window****] سريعاً مثل لمح البصر، كأنَّها تفر من وحش مفترس، والساعات والدقائق لا يمكن أن تتوقف أو ترجع إلى الوراء[/color][color=window****]..[/color][color=window****] هي تمشي في عادة إدمانية.. ومن يظن أنَّه قادر على تثبيتها مختل أو مجنون.. ضياعها ضياع عمر..فهي لا تعرف التحجر ولا الجمود.[/color]
[color=window****]ومخطىء من يظن أنه يبقى على حاله بعد حين، ففي كل ثانية تحدث تغيرات في الأجساد لا ندري ما هي، لأنها غير مرئية أو محسوسة.. فهيلا تظهر عادة إلا على المدى البعيد، وقديماً قيل: إذا مضى يومك مضى بعضك.. والذكي من عرف قيمة الوقت وأنتج فيه..[/color]
[color=window****]وكان زياد مع مضي الأيام يزداد حرقة وتشوقاً إلى من يحب.. [/color]
[color=window****]رأى كل الناس ولم يصدف أن رآها.. [/color]
[color=window****]"لعلها تتعمد ذلك؟".. دون أن يسأل نفسه عن الخطوة التي اقترفها ليصحح الخطأ..[/color]
[color=window****]فهو لم يجرؤ حتى على التوجه نحو[/color][color=window****]ج[/color][color=window****]انب السطح المقابل لغرفته.[/color]
[color=window****]كان ينظر إلى الفضاء يحتفل بنجومه كأبهى لوحات الجمال، لكنه لا يقترب بضع خطوات، فهذه الخطوات القليلة كانت كافية لكي توصله إلى زاوية من السطح يطل من خلالها على شرفة سارة..[/color]
[color=window****]الإنسان الذي يخاف الماضي يخاف المستقبلأيضاً..ومن يخش ألماً يأته ما هو أشد منه..[/color]
[color=window****]فإلى متى هذا الهروب؟ ومتى ساعة العودة إلى الحياة بعد انكفاء بقرار.[/color]
[color=window****]وقد قيل:[/color]
[color=window****]ومن يخشَ صعود الجبال // يعشْ أبد الدهر بين الحفر[/color]
[color=window****]يمشي قريباً من زاوية السطح..[/color]
[color=window****]لعلَّ شيئاً ما يملك قوة جاذبة يجره إلى حيث لا يجرؤ أن يكون..لعلَّ ريحاً عاتية تأتي من بعيد،تنزعه من مكانه، وتحمله- غصباً - إلى أقصى الزاوية.. وتلقيه أمام من يحب.[/color]
[color=window****]لكنْ.. هيهات [/color][color=window****]هيهات [/color][color=window****]أنْ تأتي ريح يتمناها.. وأن يتغير واقع لا يريد هو بنفسه أن يغيره ويبدله. [/color]
[color=window****]فهل تتغير الأحوال من غير إرادة ويتحقق انتصار من غير قتال؟ وكم من متأمل ضاعت منه آمال وتناهت عنه أحلام.. يظن مخطئاً أن الآمال ستأتيه عفواً، وأن الأحلام ستتحقق دون أن يجهد فكراً أو يبذل عملاً. هو يعلم أنَّه: ما نال غايته من عوَّل الآمال على ريح صرصر عاتية.. أو من طلب الماء في صحراء قاحلة.. أو من صخرة صماء جامدة.[/color]
[color=window****]إنَّ الريحَ التي تمرُّ تمضي في طريقها بكبرياء.. لا تسأل عن محب أو مبغض، هي تحمل العبير وضده.. وتسير بلا نهاية.. بلا حدود أو هدف، تتنقل من بلاد إلى بلاد دون كلل أو ملل.. تمر على أسطح بيوت الأغنياء كما تمر على أسطح بيوت الفقراء.. سيان عندها ما بين زهر الربيع أو شوكه.. هي تمضي، وتدور حول الكرة الأرضية، تقطع المسافات دون انقطاع.. ولا تعبأ بكل من تصادفه في طريقها..لكن زياداً لا يعبأ برحلة الريح البعيدة.. يريد نسمة صغيرة تحمل شوقه لأمتار قليلة.. يريد أن يرسل وروداً مع النسمة.. ورسائل كثيرة.. من يدري! لعل واحدة منها تسقط على شرفة سارة. [/color]


10– العميدة ميشلين
[color=window****]المكوث في غرفة ضيقة فوق سطح بناء عال فسيح يثير التفكير والتأمل، خاصة مع مصاحبة وجه القمر كل ليلة..[/color]
[color=window****]إن القمر في عليائه وبهائه يعشق القاطنين في الفراغ والأماكن المرتفعة.. ينسج لهم من شاله الأبيض حكايات المساء..يملأ لياليهم بإضاءات حية، فيستغني الساكن معها عن الكهرباء في ساعات التأمل، ويمضي وقته بين أحضان القمر..وما أجمل من قمر يلقاه بوجهه المنير.. يذكره بأنه دوَّر القمر، وغفا في حضنه يرسم الصور، ويجمع من خيوطه الأمل.. [/color]
[color=window****]ساعات وساعات قضاها يتأمل.. [/color]
[color=window****]دفعته ساعات التأمل الكثيرة ليفكر بنفسه أكثر فأكثر، فإلى متى سيظل يعيش على كرم أهل الحي؟ هم يأتونه بالشراب والطعام، وحتى الكساء، أهذا هو الذي أراده له أبواه؟! أهذا هو الذي يريده ويتمناه؟!.. [/color]
[color=window****]قرر الذهاب إلى الجامعة، لكنَّ الأمرَ ليسَ سهلاً.. [/color]
[color=window****]كيف يذهب إلى العميدة ميشلين بعد أن رفض استقبالها في بيته؟[/color]
[color=window****]كيف يطلب منها أن يعود إلى الجامعة وهو لم يستجب لدعوتها له بالعودة إلى الدراسة؟[/color]
[color=window****]كيف يذهب إلى الجامعة بعد تخليه عنها فترة طويلة من الزمن؟[/color]
[color=window****]كيف يلتقي بأصدقائه الذين عاملهم بجفاء وكيف سيكون موقفهم منه؟[/color]
[color=window****]أسئلة كثيرة مزعجة.. لكنه يريد من خلالها أن يجد حلاً يتيح له متابعةحياته بشكل طبيعي.. [/color]
[color=window****]ميشلين سيدة كريمة.. بلغت منصب عميد لكلية الطب بعد أن قضت في التدريس فترة طويلة، تمكنت خلالها من استقطاب قلوب الطلاب والطالبات وجذب اهتمامهم لأنَّها صاحبة عقل وقلب كبيرين..[/color]
[color=window****]قرر الذهاب إليها.. مهما كانت النتائج.[/color]
[color=window****]تذكر كيف كانت العميدة ميشلين ترعى طلابها وطالباتها وتعاملهم كأولاد لها، تحرص على أن يحضروا ساعات الدراسة كلها، ولو تغيب أحدهم لأمر ما كانت تعيد بعض الأجزاء المهمة من المحاضرة السابقة وتطلب من المتغيب أن يقرأ الدرس جيداً ويحاول أن يفهمه، وإن وجد صعوبة في جزئية ما تطلب منه أن يسألها في الساعات المكتبية، فهي لم تبخل يوماً بمعلومة مفيدة، ولم تتبرم مرة ولم يضق صدرها من كثرة استفسارات الطلبة والطالبات، بل كانت تصر على أن يطرح الجميع أسئلتهم، وإن لم يسأل أحد الطلاب تتوجه إليه هي ببعض الأسئلة لتتأكد من أنهم فهموا الدرس جيداً..[/color]
[color=window****]تذكر بعض الأصدقاء، وخاصة زميلته دينا.. [/color]
[color=window****]كانت دينا تحرص على أن تراجع معه بعض المواد، ولطالما سألته عن أمور كانت بحاجة من وجهة نظرها لشرح وتفسير، وكان يتعجب من كثرة أسئلة دينا، مع أنها طالبة متفوقة، وتحصل على درجات عالية في الامتحانات القصيرة، وكذلك في امتحان نهاية كل فصل.[/color]
[color=window****]استعاد كثيراً من ذكريات الجامعة.. وقرر أخيراً أن يذهب في صباح اليوم التالي إلى الجامعة، ليمنح نفسه فرصة حقيقية جديدة، بدلاً من الجلوس والانتظار.[/color]
[color=window****]الترقب بلا نهاية أمر لا طائل منه، والحياة تحتاج إلى انعتاق من قيود الواقع وانطلاق إلى المجد، وإن العيش في قلب الصراع يستوجب التغلب عليه، وكما قالوا: "لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس". [/color]


11 - في مكتب العميدة
[color=window****]الجامعة في هذا الوقت من النهار تكون هادئة، ولا يظهر الكثير من الطلبة في الساحات والردهات، وكلية الطب من أكثر الكليات التي يبذل فيها الطلبة مزيداً من الجهد في الدراسة، وزيادة في الاهتمام بحضور المحاضرات وعدم التخلف عن الساعات التدريبية، فالطب مواده الدراسية مفصلة وكثيرة، وتتطلب تركيزاً ومتابعة والتزاماً صارماً بالحضور.[/color]
[color=window****]كانت سعادة الدكتورة ميشلين بدخول زياد مكتبها لا توصف.. المفاجأة السارة لم تدع فرصة لبقاء العميدة جالسة على كرسيها..نهضت بعفوية، واستقبلت ضيفها مرحبة به بحرارة عند باب المكتب: [/color]
[color=window****]"اشتقت إليك يا ولدي، ما هذه المفاجأة السارة، لقد تغيرت قليلاً.. تبدو نحيفاً وعليك آثار التعب.. الجامعة اشتاقت إليكونحن أيضاً.. زملاؤك بحثوا عنك طويلاً بعد اختفائك المفاجىء.. ودائماً نتحدث عنك".[/color]
[color=window****]كانت العميدة سعيدة جداً بعودة زياد.. وكانت من شدة فرحتها تتكلم وتتكلم.. [/color]
[color=window****]زياد الذي توجه مباشرة إلى مكتب العميدة لم يلتق أحداً من زملاء دراسته في طريقه إلى المكتب..[/color]
[color=window****]سار سريعاً حتى بلغ المكان..كان يعلم أن هذا الوقت يكون فيه معظم الطلبة مشغولون بالمحاضرات داخل قاعات التدريس أو في المختبرات..[/color]
[color=window****]استرجعت العميدة مع زياد بعض الذكريات السعيدة، كانت تتحدث بسرور لم تتسم به الدكتورة ميشلين من قبل.. فمر الوقت.. وفي حركة تلقائية، ألقت العميدة ميشلين نظرة نحو ساعة معلقة فوق الجدار المقابل لها.. فهبت من مقعدهامباشرة..صائحة: "يااااااه.. لقد تأخرتُ كثيراً.. هيا.. تعال معي يا زياد.. هيا بسرعة".[/color]
[color=window****]فوجئ زياد من التغير الفوري الذي طرأ على الدكتورة ميشلين، فقد نهضت بسرعة، ولم تكن أمام زياد فرصة للكلام، كما أنها لم تكن تنتظر منه رداً.[/color]
[color=window****]قامت العميدة على الفور..حملت حقيبتها الجلدية ذات اللون الذهبي الزاهي المزنَّر بخيوط وردية وبنفسجية، ثم سارت بخطى سريعة أقرب إلى الهرولة منها إلى المشي، فتبعها زياد مذعناً دون أن يبدي أي اعتراض..[/color]
[color=window****]وما هي إلا خطوات قليلة حتى وجد زياد نفسه وجهاً لوجه أمام الدكتورة دينا، تلك الطالبة المجتهدة التي كانت تحمل له أطيب مشاعر الود التي تجاوزت حدود الزمالة والصداقة، وكم هي حاولت مراراً وتكراراً أن تخرجه من عزلته في الأيام التي تلت الحادثة الأليمة.. وكانت تصرفاته جافة معها.[/color]
[color=window****]تجمَّد زياد في مكانه، لم يكن يتوقع هذا اللقاء، أو ربما لم يكن في تفكيره هذه اللحظة..[/color]
[color=window****]أطلقت دينا صيحة مدوية..[/color]
[color=window****]المفاجأة لم تمنح دينا فرصة لتكتم صيحتها، أو أنْ تخفي شدة دهشتها برؤية زياد أمامها بعد غياب طويل طويل، انقطع معه الأمل من عودته رغم شوقها إليه.[/color]
[color=window****]كانت تقف عندمدخل القاعة التي تجمع فيها زملاء زياد القدامى.. بانتظار وصول الدكتورة ميشلين.[/color]
[color=window****]هرع الجميع نحوها..حيث تقف في مواجهة زياد مباشرة، كان زياد مرتبكاً من الموقف.. [/color]
[color=window****]هبت صديقات دينا نحوها، وقبل وصولهن إليها، غارت عيناها، وهَوَت أرضاً.[/color]



12- سرٌّ الدكتورة دينا
[color=window****]أجرت الدكتور ميشلين فحصاً سريعاً على نبضات قلب دينا.. وبعد أن اطمأنت على سلامتها، طلبت حملها ونقلها إلى مكتبها القريب لترتاح على الأريكة.. مفاجأة عودة زياد كانت شديدة الأثر في نفسها، ما كشف عن سر كبير تحمله منذ سنوات.. لا يعرفه غير صديقتها المقربة الدكتورة فتيحة التي ظلت مع صديقتها دينا في مكتب الدكتورة ميشلين..[/color]
[color=window****]وفي قاعة التدريس كان الطلاب والطالبات زملاء زياد القدامى يعبرون عن فرحتهم الكبيرة بعودة صديقهم القديم بعد أنْ اطمأنوا على صحة زميلتهم دينا..[/color]
[color=window****]زياد بالنسبة إليهم ليس زميلاً فقط، بل أخ وصديق للجميع.[/color]
[color=window****]قالت الدكتورة ميشلين وهي تضحك: "يا دكتور زياد، لقد ضيعت على زملائك درساً مهماً.. هم انشغلوا بك فطارت من عقولهم الدارسة".[/color]
[color=window****]أطربت عبارة "يا دكتور" أذني زياد.. كان سعيداً جداً بسماعها من الدكتورة ميشلين. [/color]
[color=window****]وقبل أن يعلق بكلمة أردفت قائلة: "سوف تضطرني للقيام بلقاء إضافي حتى أشرح الدرس من جديد..لذا فإني سأعاقبك عقاباً قاسياًعلى ذلك.. وعقابك هو قبول دعوتي إلى فنجان قهوة في استراحة المدرسين، مع كل زملاء الفصل، وفوراً، بعد أن تعود إلينا دينا بصحة وعافية، ولن أقبل أي عذر.. والنقاش بالموضوع غير مسموح إطلاقاً".[/color]
[color=window****]"نعم..نعم..نعم..". [/color]
[color=window****]طلاب الفصل يعلنون بصوت واحد موافقتهم على دعوة الدكتورة مع التصفيق والضحك..[/color]
[color=window****]أما زياد فلم يضحك.. [/color]
[color=window****]ظن البعض أن سبب ذلك هو أنه ما زال على حزنه القديم.. لكنه كان يفكر في هذه اللحظات بالدكتورة دينا وبما أصابها.. وحتى لا يحرج نفسه بالأسئلة الكثيرة؛ ابتسم دون أن يبدي أي اعتراض على حكم الدكتورة ميشلين.. "المبرم".[/color]
[color=window****]وقبل أن تزول الابتسامة عن وجهه دخلت فتيحة عائدة من مكتب العميدة، فرأت الجميع يضحكون.. فضحكت معهم دون أن تدري ما السبب، ثم أخبرتهم أنَّ دينا بخير، وشربت قليلاً من الماء البارد.. وأنها سعيدة جداً بعودة زياد.. ولم تكد فتيحة تنهي جملتهاحتى دخلت عليهم دينا فنهض الجميع لاستقبالها، فيما أسرع زياد نحوها وفي عينيه بريق جديد.. كأنَّه اكتشف شيئاً غاب عنه سنين مديدة.[/color]
[color=window****]ما أغرب هذه الدنيا.. بل ما أشد غرابتها!.. لا يدرك الإنسان في أحيان كثيرة أهمية أمر ما إلا في وقت متأخر وفي ظروف غير مناسبة، ولا يعرف قيمة الأشياء عندما تكون قريبة منه وفي متناول يده، فيعتاد عليها من كثرة ما يراها، يظنُّ أنها شيئاً عادياً بسيطاً، فيقوم بالبحث عن أشياء أخرى قد تكون أقل قيمة ومكانة، فيخسر الأولى ولا يعثر على ما يضاهيها.[/color]
[color=window****]فتيحة تعلم أنَّ دينا تحب زياداً.. واليوم [/color][color=window****]وصلت هذه الرسالة إلى[/color][color=window****] الجميع، غير أنَّ دينا عندما عادت حاولت أن تظهر أنَّ ما حدث لها كان بسبب اهتمامها بزياد كأخ وزميل، ولِمَا تحمل له في نفسها من معزَّة على مقاعد الجامعة..كانت كلماتها لتبديد القناعة التي سادت لدى الجميع محاولة فاشلة، بل زادت شكوكهم.. لتصبح يقيناً عندهم..[/color]


13– مشاعر زياد ومشاعر دينا

[color=window****]شعر زياد بالخجل والارتباك من هذا الموقف.. فقلبه ليس فارغاً.. والجميع يعلم أنَّه يحب سارة، لطالما كان يخبرهم عنها، كما أنَّها جاءت مرات عدة معه إلى الجامعة ليعرِّفها على زملاء الدراسة، كما أنَّ الدكتورة دينا تعرف هذا الشيء، ولم تكن تبدي أي إشارة أو تلميح يظهر ما تحمله في قلبها من مشاعر نحو زياد.. أمَّا اليوم فقد كشفتها المفاجأة..[/color]
[color=window****]دينا ا[/color][color=window****]نزعجت من [/color][color=window****]إفشاء سرها، هذا السرُّ الذي حملته في قلبها سنيناً، ولولا أنَّها شعرت بمدى الحاجة إلى من يشاركها هذا السر ليخفف عنها لوعتها؛ لما أخبرت صديقتها المقربة فتحية، التي تعرفها منذ سنوات طويلة تعود أيام المدرسة.[/color]
[color=window****]قالت دينا ضاحكة بعد أن أخبرتها العميدة بدعوتها - وهي تخفي ارتباكها - قبل أن يتوجهوا جميعاً نحو مطعم الجامعة لتناول القهوة الاحتفالية التي دعتهم إليها الدكتورة ميشلين على شرف زياد: "دكتورة.. نحن نقبل دعوتك.. لكن لدينا شرط واحد".[/color]
[color=window****]نظر الجميع نحو دينا باستغراب..[/color]
[color=window****]"الآن ليس وقت الشروط يا ست دينا!".. أجابت الدكتورة ميشلين بابتسامة عريضة.[/color]
[color=window****]فقالت دينا: "ومع ذلك؛عندي شرط لا بد وأن يتحقق.. وأنا أكيدة أنَّ جميع الزملاء سوف يؤيدونني ويساندونني بإصرار".[/color]
[color=window****]تنهدت الدكتورة ميشلين.. وقالت ضاحكة: "تفضلي يا ست دينا.. يا دكتورة دينا.. قولي شرطك، اسمعينا دررك، وربنا يساعدنا عليك ويقوينا على تنفيذ شروطك!".[/color]
[color=window****]يضحك الجميع من تعليق الدكتورة ميشلين التي نادراً ما تتحدث بمثل هذه الطرافة، حيث يغلب على طبيعتها الجد الذي تفرضه طبيعة مهنتها وشخصيتها.. [/color]
[color=window****]تقول دينا كلمات تختلط مع ضحكات الجميع: "شرطي الوحيد أن تعديننا بأن يعود زياد إلى الدراسة من جديد".[/color]
[color=window****]ومَا أنْ نطقتْ دينا بشرطها حتى ساد صمت تام في أنحاء القاعة..[/color]
[color=window****]توجهت العيون كلها نحو الدكتورة ميشلين.. كأنهم في لحظات سعادتهم بعودة زياد غاب عنهم هذا الأمر جميعاً.. شرط دينا أحدث صدمة.. جعل الجميع يترقب رد الدكتورة ميشلين بصفتها العميدة المسؤولة.[/color]
[color=window****]لم ترد العميدة أنْ تسرق منهم فرحتهم بعودة زياد.. لم ترد أن تتلاعب بمشاعرهم، وأن تتعب قلوبهم بردود غير واضحة، لم تُردْ العميدة أن تمارس عليهم ما يمارسه بعض أصحاب المكانة من مواقف صلبة مترددة، لكي يشعروا الآخرين بأهميتهم.. وهذا من أسرار محبة الطلاب جميعاً لها..[/color]
[color=window****]قالت هذه المرة بجدية بالغة: "سيعود زياد إلى الجامعة رغم أنف من لا يريد ذلك".[/color]
[color=window****]هي لحظة نادرة من لحظات الحياة، لحظة ساحرة لا تقدر بثمن.. [/color]
[color=window****]تصاعد صوت الزملاء في الأرجاء..كان المكان كله سعيداً بهذه الصيحات الرائعات.. فكم هو مشرق ذاك الشعورالنبيل المنثور بالحب والمشحون بالأمل.. شعور التآخي بين الأصدقاء الذي لا يثمر إلا خيراً.. وكم هو رائع فرحنا لفرح الآخرين، وعوننا لهم حتى يملأوا سلال الأحلام بغلال الواقع..[/color]


14 – القانون هو القانون.. ولكن!
[color=window****]كان زياد موقوفاً عن الدراسة لتغيبه عنها لمدة تزيد عن ثلاثة فصول متتالية دون أن يقدم عذراً.. والجامعة توقف قيد من يتغيب فصلين متتاليين دون عذر مقبول..وبسبب تغيبه تمَّت أحالة ملفه إلى لجنة لدراسته حالته، وتم إرسال رسالة تحذير من إدارة الجامعة على عنوان سكنه، وعندما لم تتلق أي رد منه تم وقف قيده، فلم يعد يحق له متابعة الدراسة من جديد.. وهذا كله كان بحسب ما يفرضه القانون الداخلي للجامعة.. لكن القانون ليس كل شيء.. هو جزء من حياة.. وعندما يتعارض القانون مع مصلحة الإنسان، يتم تغليب كفة الإنسان لأنه هو الأهم.. وهذا ما تفهمه العميدة وهذا ما ستسعى لتحقيقه.[/color]
[color=window****]العميدة ميشلين أرادت تجاوز كل القوانين، هي تريد أن تجعل من عودة زياد إلى مقاعد الدراسة قضية مصيرية بالنسبة لها.. تبنت هذه القضية بكل إيمان، ورفضت أن تثنيها أية معوقات عن الهدف الذي ستصب كل جهدها من أجل تحقيقه رغم العقبات.[/color]
[color=window****]حملت أوراقه وتوجهت مباشرة وبنفسها إلى رئيس الجامعة بعد أن طلبت موعداً مستعجلاً منه، فاستقبلها في اليوم نفسه، لأنه شعر أن في طلب العميدة أمراً شديد الخطورة..[/color]
[color=window****]وعندما التقته العميدة بادرت فوراً إلى شرح ما تريده، ثم تحدثت عن ظروف زياد الخاصة..[/color]
[color=window****]لكن رئيس الجامعة رفض طلب الدكتورة ميشلين: "ليس الأمر بهذه البساطة.. فالقانون هو القانون".[/color]
[color=window****]لم ترض الدكتورة ميشلين أن ترضخ لموقف رئيس الجامعة وأن تستسلم للقوانين التي لا تراعي ظروف الطلاب، فلكل طالب ظروفه الخاصة، ولا يمكن الحكم على جميع الحالات بمنظار واحد، وحتى لو كان ذلك قانوناً، فهو ليس مقدساً، ومصلحة الطالب هي أهم من القانون نفسه؛ لأن القانون وضع لخدمة الطالب، وعلى القانون أن يستشعر ظروف الطالب القاهرة، والتي قد لا تتناسق في بعض الأحيان مع بنود القانون، رغم أهميته، وحرص الدكتورة على تطبيقه بحذافيره.[/color]
[color=window****]فتحايلت العميدة على رئيس الجامعة، وراحت تبدي له الحجة تلو الحجة، لكنه لم يقبل بأخذ قرار منفرد.. [/color]
[color=window****]وبعد أْنْ لاحظ إصرارها الشديد وتمسُّكها بطلبها حتى النهاية، اقترح عليها أن ترفع طلب استثناءإلى مجلس إدارة الجامعة متضمناً كتاباً تفصيلياً، تشرح فيه سبب الاستثناء الذي تطلبه، على أن تبدي فيه رأيها بضرورة عودة زياد إلى مقاعد الجامعة،تقديراًلظروفه الخاصة والدوافع التي تستوجب ذلك..واعداً إياهاً بأنه لن يتأخر لحظة واحدة عن التوقيعكرئيسللجامعة على قرار الاستثناء، وذلك بعد قيامها بإقناع مجلس الإدارة بصفتها عميدة وعضوة في المجلس الذي يعود له في النهاية الموافقة على طلبها أو رفضه.. [/color]
[color=window****]أيام قليلة مرت..[/color]
[color=window****]وفي أوَّل اجتماع لمجلس الإدارة صدر قرار بعودة زيادة إلى الدراسة، ليس من الفصل المقبل، بل من الفصل الحالي الذي لم يكمل شهره الأول، لكن القرار اشترط على زياد أن لا يحصل في أي مادة على درجة أقل من جيد جداً في الفصل الحالي، وهو الفصل الذي يجب عليه أن يعاود الدراسة فيه..[/color]
[color=window****]غمَرت السَّعادة زياداً من جديد.. عادت إليه البهجة التي افتقدها شهوراً طويلة.[/color]
[color=window****]إلتأم عقد أصدقاء الدراسة ليحتفلوا بالمناسبة، رغم علمهم بأنَّ زياداً لن يتمكن من المتابعة معهم لأنهم سبقوه بفصول عدة.. لكنَّ الصداقة ليست صداقة محدودة بفصل أو قاعة دراسة.. الصداقة لا تعرف جدراناً ولا مراحل.. فهي عنوان المحبة المشحون بالفرح والإلفة والوفاء..[/color]

15– الدراسة والعمل
[color=window****]استعد زياد لمعاودة الدراسة.. لكنه يحتاج إلى رصيد مالي ليتمكن من تسديد رسوم الدراسة ومصاريفها، وكانت المفاجأة الثانية أنَّ الكلية أعفته من كامل الرسوم والمصاريف إكراماً لوالديه الطبيبين، كما ساعدته العميدة على العمل في مختبرات الكلية على أنْ يتم السماح له بحضور المحاضرات ويداوم بين المحاضرات وبعد الظهر أيضاً.. وبذلك اكتملت جميع الظروف التي تسمح لزياد بمتابعة دراسته بانتظام دون قلق على الحاضر والمستقبل.[/color]
[color=window****]الأيام الأولى كانت شديدة الصعوبة بسبب توقفه الطويل عن الدراسة، كما أنه لا يعرف زملاء الفصل الجديد، فزملاؤه القدامى أعلى منه الآن بعدة فصول، وعليه أن يبذل مجهوداً كبيراً ليتمكن من اللحاق بهم.[/color]
[color=window****]ما أصعب هذه الأيام التي يعود بها الإنسان باختياره إلى زمان كان من المفترض أنه انتهى من بعيد، فيجد الناس غير الناس، والمكان غير المكان، فيقع في مأزق لا خيارات كثيرة فيه، إمَّا التراجع والاستسلام، وإمَّا التحدي والصبر والكفاح.. لكن كما يبدو واضحاً للعيان؛ فإنَّ زياداً اختار الخيار الأخير، وقرر خوص غمار الصعاب بلا خوف أو وجل، فالتحدي القائم على الأمل يمنح صاحبه الكثير من الثقة والإصرار، والرغبة بتحقيق النصر وإنْ كثرت الصعاب.[/color]
[color=window****]أما[/color][color=window****] الدراسة فكانت تمضي بانتظام، لكنه تأخر عن زملائه ثلاثة فصول كاملة، وهذا ما سيضطره لقضاء فترة أطول بالدراسة، لكنه قرر مضاعفة جهوده وزادة عدد المواد التي سيتسجل فيها، والدراسة أيضاً في الفصل الصيفي لكي يلحق بزملائه.. [/color]
[color=window****]وكانت مكافأة العمل جيدة، [/color][color=window****]هذا أول راتب كبير يحصل عليه في حياته، فقام بزيارة القاعة التي يوجد فيها زملاء فصله القديم، وأحضر معه طبقاً كبيراً من الحلوى المنوعة، ثم قصد مكتب العميدة ميشلين وقدم لها طبقاً مماثلاً.. [/color]
[color=window****]وفي اليوم نفسه، ذهب زياد إلى العم خليل، وكان العم خليل يزوده بحاجياته الضرورية وببعض المال ويقول له: "كل هذا من خيرات أبيك وأمك"..[/color]
[color=window****]وقف زياد أمام العم خليل.. وكان يرتدي بذلة جميلة أنيقة.. زياد يملك الكثير من الملابس والأغراض الشخصية في بيته القديم، وقد أحضر له أبو سارة بعضاً منها، لأنَّه لم يقبل الدخول الشقة طوال الفترة الماضية.. وكان أبو سارة يطلب من العم خليل أن يسلم الملابس لزياد لأنه لا يزال غاضباً منه.. كان يرتدي أجمل تلك الملابس الفاخرة كانت تختارها له أمه من أفضل الماركات العالمية، وخصوصاً عندما كانت تقوم بالسفر مع أبيه إلى بعض البلاد، ومنها بشكل خاص فرنسا..[/color]
[color=window****]أخرج من جيبه الراتب كاملاً ثم قائل: "هذا ما حصلت عليه هذا الشهر، وما سأحصل عليه كل شهر إن شاء الله.. خذ المبلغ الذي تريده.. ففضلك علي كبير".. [/color]
[color=window****]لكن العم خليل رفض بإصرار أخذ قرش واحد.. وقال له إنه سيأخذ منه اعتباراً من الشهر المقبل، أمَّا الآن فهذا المال حلال عليه بالتمام والكمال.. فهناك أشياء كثيرة عليه شراؤها.. وسوف يبدأ بتسجيل الحساب عليه من الشهر الجديد.[/color]



16 – موقف سارة

[color=window****]قال له العم خليل بإعجاب: "جميل ما ترتديه اليوم يا زياد!"..[/color]
[color=window****]تذكَّر زياد بيته.. وتذكَّر أنَّه كان يسعد كلما ارتدى ثياباً جديدة عندما كان يلتقي بسارة.. [/color]
[color=window****]ألقى ببصره على النافذة المطلة مباشرة على شرفة بيت سارة دون أن يتجرَّأ على النظر إلى الناحية الأخرى..أخذ نفساً عميقاً.. وطلب من العم خليل دون مقدمات وكأنه تذكر أمراً لا بد منه، طلب أن يقول لأبو سارة أنه يرغب بزيارته في بيته..[/color]
[color=window****]دهش العم خليل بهذا الطلب المفاجىء.. [/color]
[color=window****]طوال الفترة التي أعقبت عودة زياد لم يطلب طلباً مماثلاً، كما أنه لم يلتق أبو سارة إلا مرة واحدة في الحديقة في يوم عودته. وكان أبو سارة أخبرالعم خليل بما حدث بينهما، وكذلك المحامي عصام.. ورغم تفهم أبو سارة لموقف زياد إلا أنه ما يزال يشعر بأنه لم يقدر ما فعل من أجله.[/color]
[color=window****]العم خليل كان سعيداً جداً بطلب زياد.. وقال:"عندما أرى أبو سارة سأخبره.. لا بد أن يمر بعد قليل.. فموعد عودته من العمل أصبحت قريبة".[/color]
[color=window****]لم يتأخر أبو سارة كثيراً.. وعندما وصل الحي بادره العم خليل بالحديث قائلاًإن زياداً يريد زيارته في بيته..[/color]
[color=window****]أبو سارة تفاجأ من هذا الطلب، وبدت آثار المفاجأة بكل وضوح على قسمات وجهه.. لكنه لم يصدر أي تصرف يثير الاهتمام.. هز برأسه موافقاً.. "لا بأس.. اليوم مساء أنا موجود في المنزل.. أهلا به ومرحباً.. سأنتظره عند الثامنة".[/color]
[color=window****]في البيت كان الموقف مختلفاً.. سارة سكنت طوال الفترة الماضية داخل غرفتها، دون أن تفتح نافذتها حتى لدخول الهواء، كانت تنزل الستائر على الدوام ولا تسمح للشمس بدخول الغرفة، كانت لا تريد أن ترى زياداً.. لم تعط نفسها فرصة واحدة، انتظرت قدومه كثيراً.. لكنه لم يحاول حتى الالتقاء بها.. [/color]
[color=window****]"ماذا يريد اليوم.. لماذا يأتي! لا أريد أن يدخل بيتنا".[/color]
[color=window****]راح الأب يهدىء من روع ابنته.. "لا تغضبي يا حبيبتي، لقد وافقت على طلبه، لا أستطيع الآن أن أعتذر، أبلغت العم خليل بأنني سأنتظره الساعة الثامنة".[/color]
[color=window****]لم تستطع سارة كتم دمعات سقطت من عينيها.. [/color]
[color=window****]قلبت شفتيها، ثم توجهت نحو غرفتها غاضبة وأغلقت الباب..[/color]
[color=window****]"في الحقيقة يا أم سارة أنا أريد أن أعرف ما يريد.. [/color]
[color=window****]هل تظني أنه قد يتكلم على سارة، هل سيطلب يدها للزواج؟[/color]
[color=window****]هذه الفتاة المسكينة طال انتظارها له، كانت تتمناه زوجاً.. [/color]
[color=window****]لكنه منذ عودته لم يحاول حتى أن يكلمها، وعندما عرضت عليه العودة الى بيته رفض لك، وكأنه لا يريد فتح أي حوار معي، كأنه يريد أن يغلق الماضي على كل ذكرياته"..[/color]




17 - في بيت سارة

[color=window****]عندما دقَّت السَّاعة الثامنة مساء.. كان زياد يقف خلف الباب وينظر إلى ساعته، وبعد أنْ تأكَّد من دخول وقت الموعد.. رن جرس الباب..[/color]
[color=window****]"ما شاء الله.. دقَّة في المواعيد.. يذكرني بأبيه، كان حريصاً جداً على مواعيده، وكنت متأكداً أنه سيصل في الموعد المناسب".[/color]
[color=window****]"توكل على الله يا أبو سارة.. اذهب وافتح له الباب.. قابله بهدوء ولا تعاتبه على شيء.. استمع إلى ما سيقوله إليك.. وعسى الله أن يجعل من بعد عسر يسرا". [/color]
[color=window****]قالت أم سارة ذلك.. وكانت تتمنى أنْ تنال ابنتها الزوج الذي تريده، بعد أنْ رفضتْ كلَّ الذين تقدموا إليها معلنة أنها لن تتزوج وستبقى عزباء طوال عمرها.[/color]
[color=window****]بيت سارة بسيط وعادي، [/color][color=window****]فأبوها موظف بسيط، و[/color][color=window****]زياد يعرف هذا البيت جيداً، ولطالما دخل إليه في سنوات الطفولة، ما أجمل أيام الطفولة ببراءتها ونبلها، ما أجمل تلك الأيام التي تخلو من هموم الحياة..[/color]
[color=window****]استقبله أبو سارة بترحاب شديد، كان يحمل في نفسه أملاً..[/color]
[color=window****]لمَّا جلس زياد على الكنبة كان يخالجه شعور غريب، هاهو اليوم يدخل بيت سارة، يتنسم الهواء الذيتتنفسه.. تلفه مشاعر الأمل بلقاء سارة بعد فراق طويل.. [/color]
[color=window****]انتابته قشعريرة سرت في أنحاء بدنه وهو يهم بالجلوس في "بيت تعيش فيه سارة".. [/color]
[color=window****]"ترى أين هي الآن؟؟ هل ستأتي وتسلم علي؟".[/color]
[color=window****]كان يفكر بكل هذه الأمور ويترقب رؤية سارة.. ومضى الوقت.. ولم تأت سارة..[/color]
[color=window****]دار حديث بين أبو سارة وضيفه.. كان الحديث بمجمله عاماً عن الجامعة والدراسة والعمل.. لم يقل زياد ما يريد، ولم يسمع أبو سارة ما يريد..[/color]
[color=window****]وفي النهاية.. [/color]
[color=window****]"لقد جئتُ إليك اليوم يا عمي لأمر أرجو أن يلقى موافقتك".[/color]
[color=window****]فرح أبو سارة بهذا الكلام وانفرجت أساريره.. [/color]
[color=window****]ها قد أتت أخيراً اللحظة التي ينتظرها، معتقداً أنه سيسمع الآن الكلام الذي يتمناه.. [/color]
[color=window****]"تفضل يا زياد قل ما عندك".[/color]
[color=window****]"في الحقيقة يا عمي.. أنا الآن أصبحت أعمل ولدي راتب ثابت..".[/color]
[color=window****]"نعم.. تابع".[/color]
[color=window****]"أرجو.. أرجو أن توافق على أن استأجر منك شقتي – آسف – أقصد شقتك، وسوف أدفع لك الإيجار الذي تراه مناسباً وأرجو أن يتناسب مع راتبي البسيط...".[/color]
[color=window****]وقبل أن يكمل زياد كلامه انتفض أبو سارة واقفاً.. وقال بصوت مرتفع: "..ماذا؟".[/color]
[color=window****]كان زياد يعرف وضع أبو سارة المادي، وأنه يسدد قرضاً مالياً شهرياً للبنك، وهو يريد أن يخفف عنه قيمة القسط الشهري من خلال ما يريد أن يدفعه له من إيجار..[/color]
[color=window****]استغرب زياد من ردة فعل أبو سارة، فهو لم يقل له شيئاً يظن أنَّه مزعج له، لكن أبو سارة أسرع إلى مدخل البيت، وفتح الباب، وقال له: "تفضل.. ليس عندي شقة للإيجار.. تأخر الوقت، وأريد أن أنام".[/color]

18 – سارة تتألم أكثر

[color=window****]كانت سارة تنصت من وراء الباب.. قلبها البريء ذهب بها الى مكان آخر.. تحزن ويزداد اكتئابها.. أبو سارة رفض أن يؤجره الشقة .. "الشقة ليست للإيجار".. لم يقم بشرائها لكي يؤجرها.. لماذا لم يفهم زياد ذلك.. لكن زياد يفكر بطريقة مغايرة.. يريد أن يساعد أبو سارة على تسديد القرض، كما أنه لا يريد أن يشعر بأنه ضيف في بيته..[/color]
[color=window****]ما أصعب أن يصبح الإنسان ضيفاً في بيته، سجيناً في ملكه.. فالدنيا لا تبقى على حالها، والرضا بالواقع مهما كان صعباً ضروري للتحدي.. أمَّا الثبات والمقاومة لتحقيق الانتصار، دليلان على حب الحياة.. وإرادة النضال من أجل ما نحب.[/color]
[color=window****]خرج زياد وقلبُه ينزف ألماً،[/color][color=window****] لم يكن رد أبو سارة كافياً ليستيقظ من غفلته، ليعود إلى واقعه، ليدرك أن الهروب من الحياة لا يعني أنّ الحياة لن تلحق به، فعليه أن يستوعب الدرس ولا يكرر الأخطاء، غير أنه لم يستفد من كل تجاربه، ما زال يحلق في عالم بعيد عن الواقع.[/color]
[color=window****]أمُّ سارة حاولت أن تهدئ من روع ابنتها، وكانت تشاركها الحزن بحزن مماثل، بل وحنق على زياد وتفكيره الذي جعل من حياة ابنتها سجناً وجحيماً لا يطاق.. كانت زيارته رمحاً جديداً قذفه في قلب سارة، لم تكن تحتاج إلى مزيد من الجراح، يكفي ما لديها من جراحات السنين. [/color]
[color=window****]يظن نفسه واهماً؛ أنَّه الوحيد المجروح..وما هو إلا واحد بين ملايين من الناس الذين يعانون ويعانون، لكنهم ينتصرون في النهاية على معاناتهم، أو على الأقل يثبتون ويقاومون الألم، ويحتفظون بمن حولهم، دون أن يتخلوا عنهم، أو يفكروا بأن يعاقبوهم على خَطب ليس لهم فيه أي مسؤولية.[/color]
[color=window****]كبرت آلام سارة حتى ملأت حيطان البيت وزواياه.. لم تعد تطيق جلوساً ولا رغبةبالبقاء لحظة واحدة في هذا المكان.[/color]
[color=window****]اقترح أبو سارة على زوجته أن تذهبا إلى بيت صغير لهم في قريتهم البعيدة، حتى تهدأ سارة وتتجاوز محنتها، علها تنسى بعض ما حدث، فالأمر يشتد على سارة، وهي التي كانت تعتقد أنَّ عودة زياد سوف تعيد الأيام الخالية، وتنهي فصلاً أليماً عبر بكثير من الجراح؟[/color]
[color=window****]هكذا وببساطة اختفت سارة من بيتها، كما اختفت قبل ذلك من الحي، لكنَّها لم تختفي أبداً من قلبه..[/color]
[color=window****]أخبره العم خليل أن سارة غادرت البيت برفقة أمها إلى منزلهم في القرية.. [/color]
[color=window****]حاول العم خليل أن يستفسر عن الأمر من أبو سارة، لكن أبو سارة لم يكن يجيبه.. كان يهز رأسه كلما سأله عن، ثم يسير في طريقه كئيباً ساهماً.. [/color]
[color=window****]أما زياد فلم يعد يتكلم كثيراً وكأنه غير مكترث بما حدث.. لم يعد يزور العم خليل، ولم يعد يقضي كثيراً من الوقت في غرفة السطوح.. كل وقته الآن مكرس للجامعة، غارق ما بين الدارسة وفي العمل..[/color]
[color=window****]لقد أخطأ بحق سارة، وقادته الظنون إلى مكان بعيد، حيث يرى واهماً أن سارة لم تعد تريده.. [/color]
[color=window****]كم هو ضال الإنسان عندما يحكم على تصرفات الآخرين من خلال احتمالات بعيدة عن الواقع وأقرب إلى الأوهام التي لا تنطبق على الحقيقة، دون أن يحتكم إلى الشخص نفسه الذي يحكم عليه، وحتى لو كان يدرك أنَّ بعض حكمه خاطئ؛ فإنَّه لا يبذل جهداً لمعرفة الحقيقة من صاحب الشأن نفسه، ولطالما أحدث ذلك خلافات كثيرة وجراحات كبيرة لم تندمل بسهولة.. علماً أنه لم تكن لتحدث لو تمت المصارحة، وابتعد عن الاكتفاء بالسلبية حيال ما يحدث.[/color]
19 – دينا وزياد

[color=window****]ينصرف زياد إلى دراسته وعمله، وتحاول الدكتورة دينا في هذه الأثناء أن تخفف عنه أحزانه، كما تحاول أن تتقرب منه عله يقدر ما تحمله له من عاطفة شريفة لم تجرؤ من قبل عن الإفصاح عنها..[/color]
[color=window****]كانت دينا تسأله عن سارة من حين لآخر لكنَّه لم يكن يجيبها على هذا السؤال تحديداً، كان يقلب شفتيه، كتعبير عن جهله.. أو ربما عن تجاهله.. [/color]
[color=window****]تشعر أن زياد يتهرب منها، لكنَّها الآن باتت تعتقد أنَّ لديها فرصة ذهبية لامتلاك حبها القديم، هذا الحب الذي لم تجد له يوماً نافذة مفتوحة على حياة يمكن لها أن تطل منها، ولا حتى قطرة ماء باردة من جدول عذب تروي بها غليلها..[/color]
[color=window****]زياد في عالم آخر، لم يلحظ يوماً حب دينا له.. كان قلبه ينفطر حزناً على سارة.. فهو ملك لها بلا منازع، وكل ما في حياته يخبر عن ذلك، كان يتحدث عن سارة في كل آن ومكان، لو كتب شعراً كتب عن سارة، لو كتب نثراً.. كتب عن سارة.. إذا فكر برقت في فكره سارة، وإذا نام راودته في الحلم سارة.[/color]
[color=window****]قررت دينا أمراً لم تقرر مثله من قبل.. اليوم القضية بالنسبة لها حاسمة، وقد تكون فرصة لا تعوض..[/color]
[color=window****]تبحث دينا عن هاتف سارة.. [/color]
[color=window****]تطلب من أحد الأصدقاء أن يساعدها بذلك.. وفور حصولها على رقم هاتف سارة تتصل بها وتبادرها بالقول:"أنت حلم قديم.. أنت سراب وأنا حقيقة.. أنت لست بمستواه.. هو سيصبح طبيباً وأنت لست جامعية.. لستِ أهلاً له، أنت لا تريدينه وهو لا يريدك؟ فلماذا تعذبينه؟ ألا يكفي ما فعلت به حتى اليوم؟ لو كان حبك صادقاً لما تركته يتألم!".[/color]
[color=window****]تسمع سارة كلام دينا، تظل صامتة لا تتكلم.. لم تدافع عن حبها..لكنها ترفض الاستماع مرة أخرى إلى كلام دينا.. كانت مندهشة من موقفها الجديد، فهي لم تكن تشك بً بدينا أو بزياد، ولا تتخيل للحظة أن تصبح دينا زوجة زياد. [/color]
[color=window****]لم تكن دينا باتصالها بسارة تريد أن تهدم هذا الحب الذي يربط بين قلبي سارة وزياد، بل كانت تريد أن تكون حافزاً لسارة لكي تستعيد حبها وتتمسك به أكثر.. هي تدرك تمام الإدراك أنَّ حبّسارة لزياد حبٌ حقيقي قوي، لا كما يعتقد زياد.. لأنه ما زال في محنته، والغشاوة تحيط بناظريه، لهيمنة مشاعر الحزن على قلبه..أرادت أن توقظ هذا الحب، بعد أن اختبرت حب زياد.. فلا تريد أن يحترق قلباهما كما احترق قلبها.. قررت أنْ تفعلَ ما لمْ يفعلْهُ أحدٌ من قبل.. قررتْ أنْ تجمَع الحبيبين بعد فراق.. لكنَّ زياد لم يعد قادراً على قبول أي اقتراح.. [/color]
[color=window****]انصب اهتمامه بشكل كامل على الدراسة والعمل، وبخاصة بعد أن أخبرته العميدة ميشلين عن اختياره للسفر في بعثة إلى فرنسا للدراسة فصلاً كاملاً في الجامعة نفسها التي تخرج فيها أبواه.. [/color]
[color=window****]كان هذا الخبر ساراً ومفاجئاً.. فهو يعرف هذه الجامعة جيداً.. ذهب إليها مراراً مع والديه، ويعرف فيها الكثير من أصدقائهما.. فلم يتردد بقبول البعثة لحظة واحدة، لا سيما وأنها تشكل فرصة سانحة للابتعاد قليلاً عن الواقع المؤلم الذي ما زال يمر به، وفرصة للابتعاد أكثر عن خيالات سارة التي ما زالت تحيط به من كل جانب، كما يحيط السوار بالمعصم. وكان يبدو أن زياداً لم يتعلم من تجاربه السابقة.. فهو ما يزال يريد الهرب.. كأنه أصبح مدمناً للهرب الدائم، والنزوح إلى تسلية نفسه وإلهائها عن الواقع، بدلاً من مواجهة الحقيقة والإنصات إلى صوت القلب.[/color]


20 - السفر إلى فرنسا

[color=window****]وصل زياد إلى فرنسا، كانت الجامعة مكاناً لتجديد الحزن على فراق الوالدين، خاصة أن كثيراً من المدرسين كانوا يعرفون والديه، وكان الحديث معه يدور دائماً عنهما، وكان يسمع كلاماً عن والديه لم يكن يعرفه من قبل.[/color]
[color=window****]عرف زياد ما كان يتمتع به والداه من احترام كبير في كثير من المؤسسات الطبية الفرنسية، لما كانا يبذلانه بمساعدة المرضى المحتاجين في بعض المناطق المنكوبة في العالم، ما كان يسمعه عن والديه زاد من فخره بهما، واعتزازه بما كانا يبذلانه، وكان الأطباء المدرسون غالباً ما يقولون له إنه يملك الكثير من المواصفات التي كانت تجمع بينهما..[/color]
[color=window****]شعر بمزيد من المسؤولية حيال والديه وحيال الناس الذين ينتظرون منه أن يرث مناقب والديه، فانغمس في الدراسة بشكل لم يسبقه إليه طالب طب، حتى كاد يصل الليل بالنهار، ما بين الجامعة أو بين أرفف المكتبات في الدراسة النظرية، وقضاء الوقت في أروقة المستشفيات أو على طاولات المختبرات للدراسة العملية التطبيقية، وكان كل يوم يمضي يلفت إليه اهتمام المدرسين الأطباء..[/color]
[color=window****]ومضت عدة شهور وهو على هذه الحال، أدرك الجميع حماسه ونبوغه، والجامعات التي تعي قيمة العلم لا تتخلى حتماً عن طلابها المميزين، ولا تتركهم دون أن ترعى وتستفيد من تميزهم.. [/color]
[color=window****]وقبيل انتهاء الوقت المحدد الذي تكتمل فيه البعثة مع اقتراب عودة زياد إلى جامعته وبلاده، فوجىء بتمديد البعثة له عاماً كاملاً.. وبقرار صرف مكافآة كبيرة له، تقديراً لإنجازاته خلال الشهور الماضية، وتشجيعاً له على مواصلة العلم والتميز، حتى يكون هو وأمثاله حافزاً لغيره من الطلبة على بذل أقصى جهد ممكن لتحقيق الأفضل دائماً.[/color]
[color=window****]كانت المكافأة الكبيرة التي نالها زياد تتضمن جانباً معنوياً وآخر مادياً، وكان مبلغ المكافأة يوازي راتب سنة كاملة في عمله بمختبرات الجامعة التي كان يعمل فيها، ما جعل زياد يشعر بفرح غامر لا يوازيه فرح، لقد كان عنده هم كبير يريد أن يخلص منه، وعلى الفور أرسل المبلغ كاملاً إلى العم خليل طالباً منه أن يضع المبلغ في البنك الذي اقترض منه أبو سارة ليسدد جزءاً كبيراً من القرض ما يوازي قيمة عدة سندات موزعة على عدة أشهر قادمة. وطلب من العم خليل أن يبقى الأمر سراً بينهما، يسدد المبلغ ويأخذ السندات ثم يضعها في البريد لتصل إلى أبو سارة دون أن يعرف مصدرها..[/color]
[color=window****]وكانت الجامعة الفرنسية تتكفل بجميع احتياجات زياد الأساسية، ومع ذلك عرضت عليه العمل كمسؤول للمختبر التعليمي لديها للاستفادة من خبرته في عمله سابقاً، كما أنها تريد أن تمنحة فرصة أكبر لاستغلال إمكاناته التي ستساعده في مهنته المستقبلية كطبيب ناجح، كما توقع له جميع المدرسين. [/color]





21 – دينا وسارة

[color=window****]في تلك الأثناء كانت دينا تتقصى أخبار زياد، وحاولت أن تعاود الاتصال مرة أخرى بسارة، لكن سارة رفضت الحديث مرة ثانية معها، رغم أن دينا أجرت اتصالات متكررة بها على هاتفها، وكانت عندما ترى رقمها لا ترد على الهاتف.. [/color]
[color=window****]وفي يوم، وبعد اتصالات متكررة؛ طلبت سارة من أمِّها أن تبلغها بأن لا تتصل بها مرة ثانية.. لكن دينا لم تتوقف عن الاتصال.[/color]
[color=window****]وكانت دينا تقوم أيضاً بمراسلة زياد في فرنسا وتخبره عن مشاعرها نحوه، وكانت تحاول أن تكتشف حقيقة حبه لسارة، وكانت تقول له إنها هي التي تستحقه أكثر من سارة، لأنها لم تتخل عنه أبداً، وأنها بحثت عنه بعد مغادرته منزله، وذكرته بشرطها للدكتورة ميشلين، وكشفت له بأنها هي التي جعلت الدكتورة ميشلين تزوره في بيته عندما كان حابساً نفسه بعد وفاة والديه لكي تحاول إعادته الى الجامعة..[/color]
[color=window****]لم يعبأ زياد بكل كلام دينا، ورسائلها المتكررة، كان قلبه أسير حبه الوحيد.. [/color]
[color=window****]كانت دينا تريد أن تختبر مشاعره أكثر فأكثر.. لكن زياداً لم يكن يجيب على رسائلها..[/color]
[color=window****]ومرة اتصلت به؛ وما أن سمع صوتها حتى طلب منها بحزم أن تتوقف عن التحدث معه بلغة العواطف، قائلاً لها إنه يحترم مشاعرها النبيلة لكنه لا يرى فيها غير أخت وصديقة، كما أنه لا يسمح لنفسه أو لأحد أن يهين سارة عن قصد أو غير قصد، وأخبرها أنه لا يفكر بالزواج لا الآن ولا مستقبلاً، وأنه قرر البقاء في فرنسا للدراسة والتخصص في أمراض الأطفال الصدرية ليجمع ما بين تخصص أبيه وأمه، بعد أن ساعده الأطباء الذين زاملوا والديه في الدراسة للحصول على منحة دراسية كاملة من الجامعة بعد أن ظهر تفوقه وتميزه في الطب. [/color]
[color=window****]واستمر زياد يعمل ويدرس شهوراً متتالية، وكان يرسل إلى العم خليل ما يحصل عليه من أموال فيقوم بدوره بتسديد القرض دون أن يعلم أبو سارة من يدفع له قيمة السندات الشهرية، حتى تمكن زياد من تسديد قيمة معظم تلك السندات، ولم يتبق منها غير القليل.[/color]
[color=window****]وتلقى زياد في هذه الفترة اتصالاً من المحامي عصام وبشَّره بأن القاضي مقتنع تماماً بالأدلة التي قدمها له حيال قيام الوكيل السابق بسرقة أملاكه بالاحتيال، وأنَّه تم توقيف الوكيل بتهمة الاحتيال لتتم محاكمته بعد اكتمال جميع الاجراءات القانونية.[/color]
[color=window****]وكان لهذا الخبر انتشار قوي في الحي، وكان جميع السكان سعداء بذلك، وكلهم يباركون لبعضهم البعض كأنَّ الأمر يعني كل واحد فيهم، حتى إن أبو سارة طلب من العم خليل أن يوزع السكاكر على كل أطفال الحي.[/color]
[color=window****]وفي لحظة فرح؛ نطق العم خليل بالسر مخبراً أبو سارة بمصدر المال الذي كانت تُدفع منه السندات، لكن أبو سارة لم يقل عندها كلمة واحدة.. هز رأسه مبتسماً ابتسامة رضا.. فهذا الطبيب الصغير الشهم هو نفسه ابن الطبيب الشهم الذي يشهد الجميع بنبله..[/color]




22 - عودة زياد

[color=window****]وكانت سارة عادت إلى بيتها عقب استقرار زياد في فرنسا للدراسة فيها، وبعد أن علمت بسفره وأخباره من خلال اتصالات دينا وحديثها المتكرر مع أمها.. [/color]
[color=window****]وظلت دينا تعاود الاتصال مرة تلو الأخرى، وكانت تتحدث في كل مرة مع أم سارة، فأخذت مشاعر الود مع مرور الوقت تنمو بينهما..[/color]
[color=window****]وفي يوم من الأيام أخبرت دينا أم سارة أن زياداً سيعود قريباً ليؤدي مهمة طلبتها منه الجامعة الفرنسية، وأنه سيبقى في البلاد لأسابيع قليلة قبل أن يسافر من جديد، وأنها تتمنى أن يلتقي زياد بسارة، وأن على الأم أن تساعد لكي يتم هذا اللقاء..[/color]
[color=window****]كانت أم سارة تتمنى كثيراً حدوث هذا اللقاء.. فهي تعرف مدى ما تحمله سارة في قلبها من حب كبير لزياد، لكن سارة لو علمت بقدوم زياد فسوف ترفض اللقاء به.. كما أن زياداً قد يخشى أن يبادر إلى أي خطوة تزيد الشقاق بينهما..[/color]
[color=window****]فكرت دينا بحل ممكن.. [/color]
[color=window****]كان زياد في فترة عودته مكلفاً بالعمل في المستشفى المحلي كجزء من متطلبات الدراسة، وكانت خطة دينا أن تدعي أم سارة بالمرض فجأة، ما يستوجب نقلها إلى المستشفى فيما يكون زوجها في العمل، فتضطر سارة لمرافقة أمها.. في الوقت نفسه الذي يكون فيه زياد في عمله في المستشفى..[/color]
[color=window****]وعندما تأكدت دينا من أن الخطة محكمة الخيوط، طلبت من أم سارة أن تبدأ الادعاء بالمرض، ثم انتقلت برفقة ابنتها إلى غرفة الطوارئ في المستشفى حيث كان زياد يتابع حالة مريض، وفي لحظة دخول سارة مع أمها التقت عينا زياد وسارة.. وكانت مفاجأة كبيرة لكليهما..[/color]
[color=window****]إن المسافات المصطنعة غالباً ما تزول عند أقل جهد، لأنها مسافات غير حقيقية، من نسج الخيال.[/color]
[color=window****]لم يترك زياد أم سارة لوحدها لحظة واحدة على سرير الطوارىء، وقف مع الطبيب المتخصص طوال الوقت، وطلب منه أن يفحصها أكثر من مرة رغم أن الطبيب قال له إنه لا يوجد أي سبب مرضي ظاهر، ما استدعى بعض الفحوص المخبرية، وكان زياد في كل الوقت يتبادل النظرات مع سارة، قبل أن يتبين للجميع أن أم سارة بخير، وقرر الطبيب أن ما أصاب أم سارة عارض طبيعي لا ضرر منه، وقد يكون بسبب الأرهاق وقلة النوم..[/color]
[color=window****]مضت الدقائق كشلال دافق يغسل كل شوائب الماضي، تقاربت القلوب من جديد، استأذن زياد وخرج مع سارة وأمها يريد أن يوصلهما إلى بيتهما، لم يكن قد ذهب إلى الحي منذ عودته قبل أيام قليلة، كان ينام في المستشفى، لم يخبر أحداً بعودته، لكن دينا هي الوحيدة التي كانت تعلم ذلك..[/color]
[color=window****]اتصلت الأم بأبو سارة وأخبرته بما حدث معها، وأنها عائدة إلى البيت، فقال لها إنه سيذهب هو أيضاً ليكون في البيت بانتظارها ليطمئن عليها..[/color]





23 - ... وأخيراً

[color=window****]في البيت اجتمعت أسرة سارة مع زياد..[/color]
[color=window****]لم يكن زياد يتوقع أن يعود إلى هذا البيت من جديد.. نظر من نافذة بيت سارة.. تلك النافذة التي تطل مباشرة على شقته القديمة.. تأمل النافذة التي لم تفتح منذ زمن بعيد.. سيعيد فتحها بعد أن يستعيد أملاكه كما أخبره المحامي عصام..[/color]
[color=window****]لم يدع هذه اللحظات تمضي دون أن يحقق حلمه القديم.. خاصة وأن دراسته شارفت على الانتهاء.. [/color]
[color=window****]صوَّب زياد نظره باتجاه سارة.. كانت سارة تنتظر هذه النظرات.. لكنها أحنت رأسها خجلاً ودلالاً.. [/color]
[color=window****]كانت أم سارة تستعد لسماع كلام جديد يخرج من فم زياد.. فهو الآن لم يأت من أجل استئجار الشقة، فهو دفع جزءاً كبيراً من ثمنها، كما أنه من المؤكد أنه سوف يعيد المال الذي دفعه أبو سارة بعد أن يسترد أملاكه وأمواله من الوكيل.. فالقضية أصبحت شبه منتهية..[/color]
[color=window****]كانت السعادة تغمر منزل سارة، وكان صوت الفرح ينتشر في الحي بعودة زياد، والجميع يتكلم عن خبر سعيد سيزف بعد قليل..[/color]
[color=window****]دقائق قليلة وانطلقت الزغاريد من نافذة بيت سارة المشرعة على الحي..[/color]
[color=window****]العم خليل كان قد هيأ الأكواب ليوزع العصائر والسكاكر والحلويات على أبناء الحي والمارة.. فهو ينتظر هذه اللحظة منذ سنين..[/color]
[color=window****]الحي كله غمرته السعادة ذلك اليوم، وتصاعدت الزغاريد من كل النوافذ والبيوت.. حتى الرجال كانوا يزغردون.. لم يعرف الحي فرحاً مثل هذا الفرح منذ الحزن الكبير على وفاة والدي زياد.. أمَّا اليوم فمن حق الجميع أن يفرحوا.. أن يزغردوا.. أن يغنوا.. فكما ملأ أبوا زياد قلوب أهل الحي سعادة وأبدانهم صحة، ها هو زياد الابن الطبيب، يملأ القلوب من جديد بالسعادة والحبور.. [/color]

(النهاية)


 
 توقيع :



رد مع اقتباس
قديم 05-30-2012, 06:36 AM   #3
~ مشرف منتدى الاثاث والديكور المنزلى ~


الصورة الرمزية Maged
Maged غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 36
 تاريخ التسجيل :  Sep 2011
 أخر زيارة : 03-01-2018 (05:16 PM)
 المشاركات : 4,133 [ + ]
 التقييم :  10
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Darkcyan
افتراضي



1 – حديقة الطفولة
حديقة الطفولة خالية باستثناءالذكريات التي لم يخمدأوارها يوماً ما..
إن ذكريات الطفولة غالباً ما تأتي على غفلة، تسكب الماضي شلالات أمل، أو دفق بركان خمد منذ سنين.. ثم انفجر على ضربات القلب.
الأرجوحة في مكانها، تملأ فضاء النفسرقصاً وتأرجحاً..
حبال تمتد حتى تلامس جبهة السماء المتعاليةفوق بساط من غيوم رقيقة جداً، ومن خلفها تمتد نجوم الأمل،على جمرسخونة أنفاسه الساعية على عجل، يقلب ذا الكف وذا الكف، بحثاً بين خيوط سرابه الأول، عن "دعوة حزن" عاش أسيرها شهوراً طويلة، مستجيباً لجبروتها دون احتجاج، متقلباً على لهبها دون اعتراض..
كأنه يعاقب نفسه، يريد أن يطهرها من "جرم" لم يقترفه، وجناية لم يرتكبها.
قلبه يسكن سجن الماضي،وروحه لا تطيق الانحباس في فضاء بلا مدى..
[color=window****]ولولا حادثة البستان لما قفز فوق جدار التيه نحو التحرر والانعتاق..[/color]
ألمه بجرح سارة زاد لوعة فراق الوالدين.. صدمة العودة أطلقت من أعماقه صيحات كانت مكبوتة.. لم تكن سارة تستحق كل هذا القهر والقسوةوالعذاب.. لكنَّها لم تستسلم لآلام الحياة، لم تضعف مثله، بل كانت أقوى بكثير..
"لكنها لم تفقد والديها مثلي"..
فكر بصوت عالٍ..
تنبه إلىأنَّه في مكان عام، تلفت حوله..
"الحمد لله لم يسمعني أحد".
يبحث عن عذر حتى يبرر لنفسه.. الصدمة كانت قاسية، لكنها ليست مبرراً لكي يقسو على غيره ويعاقب نفسه، هاجراً دراسته، مبغضاًحياته وحياة من أحبه، والنتيجة فقد كل شيء، حتى إرث والديه التهمه من وثق به..فهدم الحزن ما قضى الوالدان عمرهما في بنائه.
كان حبه لهما سبباً في الإساءة لذكراهما، ولكل من أحبهم وأحبوه..
عندما تكون مشاعر الود مورداً للهلاك فما يغني الطبيب ولا الدواء؟
حاله كحال الشاعر القائل:

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة // فقل أين يسعى من يغص بماء؟
إن الحبَّ الذي يملأ الفؤاد تجملاً، يسطع بنورهإذاانطفىء كل سراج، فلا يبقى غير شعاعهمخترقاً ليل الألم، عاصراً من الجراح بلسماً، منتصراً على سراديب الظلام.
2 –الأرجوحة الخشبية

الوقت بات متأخراً بعض الشيء، والناس عادة لا تأتي إلى الحديقة في مثل هذا الوقت من الليل..
بياض خافت تسرَّب من بين غيم..
ألقى القمر وجهه على تلك الأرجوحة الخشبية، المزهوَّة بدقة الصناعة، أرجوحة ضمتها حكايات الطفولة واليفاعة.. طفولة تحكيها ورود الحديقة ببراعة..
"هنا لعبنا.. هنا أكلنا وشربنا.. هنا وقعتْ وجرحتْ يدها،فمسحتُ بمنديلي جرحها الدامي.. منديل احتفظت به سنين عديدة.. تركته في غرفتي بين أشيائي الحميمة".
"آه.. هذه هي الشجرة شاهد على طفولتنا..فيها غصن انكسر تحت وطأة ثقلنا بعد أن قررنا الجلوس عليه في عبث ولهو ولم نرحم ضعفه، فكسرناه ووقعنا من أعلى الشجرة، ولولا لطف الله لتكسرت أضلعنا كما انكسر الغصن.. ما أحلاها من ذكرى".
"هنا.. دورنا القمر.. وهناك رسمنا الصور.. وعزفنا مع الطيور أجمل الألحان.. فما أجمل القمر هذه الليلة، إنه يشبه ذلك القمر!".
"قالت إنها ستنتظرني هنا.. طال انتظارها دون أن آتي"..
"صبرتْ عليَّ ولم أصبر على جرحي.. نبشت كل ما في الكون من ألم، وكانت بلسماً قربي، ولم أعِ قيمة هذا البلسم".
"لا عذر لي.. لا عذر لي.. كيف أقابل الناس الذين احتضنوني بعطفهم بعد أن جافيتهم بقسوتي، أي ابن عاق هو أنا؟".
ظلَّ على هذه الحال يتقلب على جمر الأسى، يحاسب نفسه على ذنبها، مضت شهور طويلة، فقد فيها كل شيء، منذ وفاة أبيه وأمه، منذ تلك الحادثة الأليمة، من حقه أن يحزن، أن يبكي فقدان من يحب، لكن البكاء لم يكن يوماً حلاً لمشكلة، ولا ترياقاً لمعضلة..
كل الأحلام القديمة لم تكن سوى خدع على طرقات مزدحمة بالإطارات..
طرقات الحياة ملأى بجراح ساخنة..
تلك الطرقات حصدت أغلى غواليه.. الدكتور رمزي والدكتورة صفاء.
تثور في مقلتيه دموع متلألئة، تبرق على وهج لهيب ضوء تناثرت أضلاعه..
لم تكن هذه اللحظات سوى مهماز يقرح خاصرته المزنَّرة بالجراح.. الموشحة بالوجع..
يريد أن يبني جداراً بينه وبين نفسه..
عاد مقراً بأنَّ الأمل باقٍما بقيت الروح في الجسد، وأنَّالعطاءصنو الوفاء.. ومواصلة الطريق رغم جراحاته أفضل ألف مرة من الاستسلام.. لكنَّ، كيف يجبر المكلوم ما انكسر، وكيف يعالج السقيم قسوة الأيام..
التجمل دوماً هو ملاذ المحزونين، هو سبيلهم الوحيد للتحرر من قبضة الألم.




3- ذكريات الأمل

هنا الأرض اشتاقت لخطواته..
وهنا الفراشات تسمع همساته، وترسم في ناظريه ألوانها..
هنا الطفولة زرعت في نفسه أحلامها وآمالها، واتخذت من رحيق الورد عنواناً.. حتى تلاشت في نبضاته وتعطرت في..
هنا تفتحت ورود الحياة ورسما معاً أجملالذكريات..
تلك الذكريات التي يحملها زياد في مهجته، نسجها بخيوط ملساء وردية، فأزهرت في هذه الحديقةالوارفة، مطلة على ماضية.. بكل ما فيها من جمال ساحر جذاب..
ذكريات أمل متألق تنبعث بفرح وكبرياء كشقائق النعمان..
سار في أرجاء الحديقة، كان يشعر كأنها غابة وسيعة، رغم مساحتها المحدودة.. ومع سَيْره يقلِّب صفحات الماضي بشغف يريد أن يستكشف كل صفحاته التي قد تكون قد غابت عنه أو شابها بعض الضباب بسبب الغمائم التي تملأ فضاءات المحزون.. كتاب ممتلىء بالذكرى.. عالم من جمال يكتنفه فيض من الألم.
يتذكر– زمناً بعيداً - عندما كان أبوه يأتي بهوهم ما يزال في روضات طفولته الأولى، يضعه أمام اختبار الأرض.. أمام حب الوجود للوجود، واشتياق التراب إلى التراب.. هذا الذي منه أتى إليه الإنسان وإليه يعود، دون اختيار أو إرجاء.. هو في القدوم أم في الرحيلسواء، أشياء مكتوبة، ليس للإنسان فيها حيلة.
أدرك بحس البنوة أن الأبوة ليست نزعة تشبعية.. بل رغبة باستمرار حياة.. مثل شجرة تزهر وتثمر ثم تسقط أوراقها لميلاد جديد، لحياة عتيدة.. تعطي ميراثها دون اقتران ذلك بآنية نفعية، هكذا علمه أبوه من الأرض.. وهذا ما رآه على يدي أمه وأبيه وهما يعالجان المرضى..
نادرون هم من يعصفون في الحياة ويرسمون الأمل..
نادرون هم من يزيدون في الميزان ولا يخسرونه..
نادرون هم من يجعلون حياتهم شموعاً لينيروا دروب الآخرين..
لكن قدر الحياة أن تكونَ أعمار هؤلاء قصيرة، غير أنهم يثمرون..ويثمرون.. ويثمرون.
تعود النسماتُ البارداتُ، تمرِّغُ وَجْهَهُ المتلفح بالحُزْنِ، تحَاولُ أنْ ترفعَ عنه هذا اللثام، أن تجلوَ الهمَّ عن عينيه فيغدو كما كان..
خطوة العودة كانت البداية، وأي شيء يحتاج إلى بداية، فلا يمكن تغيير الواقع دون إرادة وإصرار، فالدنيا مهما أبدت من حسن النية، فإنها تخفي وجها عبوساً، وقديما قالوا:
ما زالت الدنيا دار أذى // ممزوجة الصفو بأنواع القذى
يجلس زياد على مقعد حجري فيشعر ببرودتهالشديدة.. يسرع بالقيام من مكانه،ويشرع بالبحث عن مقعد خشبي،يمتص برودة الليل أو جزءاً منها.. يلقي عليه بدنه المنهك.
فكر في ذلك:"الخشب قادر على امتصاص الشدة وتخفيفها علىمن يتلقاها من جديد، بينما الحجر - على قوته - ينقل البرودة ولا يمتصها، فينفر الجالس عليه، ويضطره للبحث - كما فعلتُ- عن مقعد غير حجري.. رغم ما يتميز به من شدة وصلابة، إلا أنه في النهاية بارد متحجر"..

4– عصامالمحامي

على وميض الذكريات المتوهجة يتناهى إلى سمعه وقع أقدام تطرق الأرض بحنان.. طرقات متتالية خفيفة غير متسارعة، لولا هدوء اللحظة لم يسمع صوتها.
ترى من يأتي الساعة غير القمر! يخترق حجب الظلام بضوئه، يؤجج نار الذكريات الباعثة على الأمل رغم كل فحيحها..
عصام.. يا للمفاجأة!
الجار المحامي والصديق القديم..
شاب مشتعل حماسة.. يطرق الأرض بحذائه الطويل، المرتفع من الأمام، بكعب عالٍ صلب.. وقامة مرتفعة وأناقة شبابية تعكس شخصيته الجادة..
يضم الصديق صديقه.
عصام يضم زياداً وزياد يضم عصاماً..
لوحة شوق عبث الزمان بطرفيها فتباعدا، ثم تدانت مسافاتها حتى التوحد..
ما أجمل الصداقة عندما تعود كما كانت، دون أنْ تذْبلَ أو تموتُ كما تموتُ الورود وهي واقفة على ساقها.. أو قائمة في إنائها..
إن صداقات الطفولة البريئة لا تموت بسهولة، لأنها قامت على الوفاء والصدق، ولم يأتها باطل من خلفها ولا من أمامها.. هي نسائم الحياة التي تملأ الوجود بالعطر عندما يسوء العمل، ويحتضر الأمل.
يتكلم عصام بفرح المتحمس بلقاء عزيز بعد فراق طويل: "أخبرني الحارس وأنا أدخل العمارة قبل قليل بعودتك، وأنك هنا في الحديقة؛ لم أستطع الانتظار حتى تعود، وضعت حقيبتي في البيت وأتيت على الفور..".
زياد يتمرد على كآبته، يفرح بصديقه، فتشتعل في عينيه أضواء الفرح.. ثم يقول مبرراً: "جئت إلى هنا قبل قليل.. عدت لأتذكر أياماً خالية، ليس لي حق بدخول منزلي.. فهو الآن ليس ملكاً لي..".
كان حاله يقول:
إنَّ حظي كدقيق فوقَ شوك نثروه // ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه

أمَّا عصام فيجيبه بأمل المحامي الواثق دائما بالنصر: "كل شيء يمكن إصلاحه.. لا ترهق نفسك يا زياد بكثرة التفكير، ولا تقلق.. فلكل مشكلة حل، ولكل أزمة فرج".
في بعض الأحيان يصبح الصمت أكثر تعبيراً وأزكى عبيراً وألذ تصريحاً.. فتسمو المشاعر وتنفتح كل مغاليق الأنفس، وتشرئب القلوب من بين أغصانها، وتمتد تيهاً وكبرياء..
أثيرٌهو الكلام!
إن التخفي وارد وراء قصائد ومعلقات مطلية بماء "مُذَهَّب"، إذا ماتبدَّل الزمان وصار الكلام مِنْ "كَذِب"، وأضحى شريفاً مَنْ كَذَبَ!



5–هروب مستمر
عصام على المقعد الخشبي الشارد نأياً عن المقعد الحجري البارد.. وقربه زياد جالس يتأمل لوحة السماء السمراء، على المدى المشغول بالقمر المستدير، والنجوم ولهى مغسولة بالشعاع المنير، تصارع السحاب المطلي بالفضة.. للبروز والتأنق على فضاءات اللوحة.
يخترق زياد حجب الصمت وعطر اللوحة المسائية المتحررة من القيود، معانقة نسمات الحرية: "تأخرتُ كثيراً بالعودة.. لقد كان الحدث مصيبة أقوى مني، وأشد من أن أستوعبها بسهولة، أردت الهرب من واقع أليم ألم بي من غير توقع أو إنذار".
هكذا تأتي حوادث الدهر فجأة، دون أن ترسل برقية إو رسالة إلى صاحبها، لكن عليه أن يتلقاها بصبر وأمل، وأن يتحمل قسوتها بشدة الإيمان، فلا شيء يخفف الألم أكثر من مجاراته.
"دعنا الآن يا زياد من هذا الحديث.. لا أريد مناقشتك في أمر قد مضى، أقدر المحنة التي مررت بها، وهي محنة أعرف كم هي شديدة الوقع، لكني لم أتفق معك على استسلامك أمامها..على أي حال؛ علينا الآن أن نفكر بالمستقبل، لا أنْ نظلَّ أسارى الماضي.. نحن أمام مشكلة يجب علينا حلها دون انتظار، ممتلكاتك التي نهبها منك وكيل العمارة تتطلب أن نحارب من أجل استعادتها، الجميع يعلم أنك كنت ضحية ذلك الرجل المخادع، وقد جمعت عنه الكثير من المعلومات، قد لا يكون الوقت الآن مناسباً للتحدث بهذا الأمر، لكني لا أريد أن نضيع المزيد من الوقت، يكفي الذي حدث حتى اليوم".
زياد يبدو هارباً من الواقع، ما تزال الحادثة ماثلة أمامه جرحاً نازفاً.. حتى بعد عودته، ما زال في رحلة هروب هائمة دائمة..
أخذ نفساً عميقاً.. كأنه يريد أن يمتص عبير المكان، أو يدخل الحديقة كلها في جوفه..
"أرجوك يا عصام، لنؤجل الحديث بهذه الموضوع، أنا لا يهمني كل ذلك الآن، ما قيمة كل هذه الأشياء بعد أن ذهب صاحباها، أنا من دونهما لا شيء.. لقد فقدت أجمل ما في الحياة.. وماذا بعد؟".
يرفع عصام منكبيه عالياً، وينفخ صدره متنهداً بعمق ثم يقول بصوت هادئ: "إنَّها إرادة الله..".
"معاذ الله أن أعترض على إرادته، أو أيأس من رحمته".
يقول زياد ذلك بكل الإيمان الذي زرعه في نفسه والداه..
"لا بأس.. الآن مرَّت شهور طويلة على تلك الحادثة، وعليك أن تبدأ من جديد.. نحن كلنا أهلك يا زياد، من ينسى فضل والديك على أبناء الحي، كبارهم وصغارهم، عودتك اليوم دليل تعافيك، دليل على أنك تريد إكمال مسيرة والديك، خاصة أنك كنت تدرس الطب مثلهما، الناس تأمل منك أن تقوم مقامهما..".
"لا أدري.. هل لإنسان أن يقوم مقامهما.. هذا محال".
يصغي زياد إلى صدى كلماته..
يلقي ببصره على زهرة منحنية الهامة تاركاً الصمت يجوب الزمان والمكان من جديد.. ينشره ليسكن ضفائر الأشجار وأفنانها.. ويمضي في البال سهماً حتى القلب..
"هيا نذهب إلى منزلي الآن، أبي سيرحب بك كابن له بكل تأكيد، يمكنك البقاء عندنا مؤقتاً حتى نجد حلاً لمكان إقامتك، إلى أن تستعيد الحق الذي سرق منك"..
"هل تعتقد ذلك يا عصام، هل يمكنني فعلاً أن استعيد ممتلكات أبي وأمي؟".
"هذا أمر لا شك فيه، هيا بنا الآن لنستريح وفي الصباح نتحدث".
6– وجه وقور
[color=window****]يسود مجدداً صمت بديع بليغ فيما يترقب عصام رد زياد..متذكراً قول الشاعر:[/color]
خلق اللسان لنطقه وبيانـــــه //// لا للسكوت وذاك حظ الأخرس
فإذا جلستَ فكنْ مُجيباً سائلاً //// إنَّ الكـــلامَ يزيِّن ربَّ المجلس
[color=window****]وقبل عودة الكلام؛ صوت نعال يشق عذوبة المكان بنهم، صوت شديد الوقع هذه المرة، حثيث الخطا بانتظام.. ينقذ زياداً من رده..[/color]
[color=window****]ثوان معدودات ولاح وجه يعرفه جيداً.. وجه وقور.. وجه لا يمكن أن ينساه، يحمل عناق الماضي بأمل الآتي.. حتى يذوبا معاً في انصهار الجداول والينابيع.[/color]
[color=window****]انتفض زياد واقفاً وكأنَّ صاعقة أصابته.. لم يكن متوقعاً قدوم نسائم الأحبة..[/color]
[color=window****]كأن الحديقة التي لجأ إليها بحثاً عن ذكرياته الهاربة باتت مقصداً لمن عرف الخبر.. [/color]
[color=window****]الحارس أبلغ والد سارة كما أخبر عصاماً، لكن والد سارة لم يصعد داره، خطا خطوات سريعة نحو الحديقة ما إن تبلغ الخبر..[/color]
[color=window****]من يصدق؟![/color]
[color=window****]يحمل في جيبه مفتاح شقة زياد.. [/color]
[color=window****]لم يتخلَّ عن المفتاح يوماً، كان يتوقع عودة زياد في أي لحظة.[/color]
[color=window****]يقبِّل زياداً بحب، فيبكي زياد كأن حاله يقول: [/color]
[color=window****]مهما كتمتُ لظى شوقٍ يؤرِّقني // قَدْ يفضَحُ القلبَ دَمْعُ العين أحْيَاناً[/color]
[color=window****]هذا المفتاح جديد، غير المفتاح الذي يملكه زياد، وكيل العمارة كسر قفل الباب ووضع قفلاً جديداً، أعطى المفتاح لأبي سارة بعد أن اشترى الأخير منه المنزل ودفع إليه مبلغ الشراء كاملاً..[/color]
[color=window****]يخبره أبو سارة أنَّ كل أغراضه ما زالت كما هي.. لم يدخل الشقة أحد خلال الفترة الماضية، وكان حارس العمارة ينظف المنزل من حين لآخر ترقباً لعودته.. [/color]
[color=window****]أبو سارة كان يبدي فرحة كبيرة بعودة زياد.. والداه كانا من أعزِّ الناس إليه، كما أنَّه يعلم مقدار المشاعر النبيلة التي كانت تربط بينه وبين سارة.[/color]
[color=window****]يد زياد لم تقترب من المفتاح المتدلي من يد تمتد أمامه مباشرة..[/color]
[color=window****]لا يريد أخذ المفتاح، لم يفتح يده ليتلقاه كما يجب أن يتلقاه.. يشعر أنَّ هذا البيت لم يعد بيته، أو ربما لا يريد أن يعود إلى تلك الذكريات التي تنبض بالألم، والتي ستحيي كل ما قد مضى من أحداث.. [/color]
[color=window****]لا يريد نبش الجراح.. لا يريد أن يتلمس أطراف الرماح المسننة.. لا يريد أن يبعث مارد الحزن في قلبه من جديد..فكل الأشياء في البيت تذكره بأبيه وأمه، كما أن البيت أصبح ملكاً ليغيره... وهو لا يستحقه.. [/color]
[color=window****]وقف أبو سارة ينتظر.. وطال انتظاره في لحظات صمت.. يملُّ منها الانتظار.[/color]
[color=window****]ما أصعب الانتظار.. [/color]
[color=window****]شهور طويلة وسارة تنتظر، والمفتاح ينتظر.. والمحامي ينتظر.. وأهلُ الحي لطالما سألوا وبحثوا عن زياد حتى ملُّوا البحث.. لكنهم لم يملوا الانتظار..تلك الحكايات التي تُحكى، جراح ساخنة على طريق الانتظار؛ تدمي القلوب، وتشعل شرايينها التي يبست وتصلبت من قسوة الزمان، ونزيف الشوق المتقلب على جمر اللظى المتأجج بلا خمود.. ولا احتضار.[/color]
7 – شقة زياد

[color=window****]"زياد.. خذ المفتاح وهيا بنا إلى بيتك". [/color]
[color=window****]قال عصام ذلك بصرامة المحامي تحت قوس المحكمة..[/color]
[color=window****]لكن زياداً ليس متهماً ينتظر حكم القضاء.. ولم يطلب من يدافع عنه.. أو من يملي عليه تفكيره..[/color]
[color=window****]لم يكن قادراً على مواجهة الواقع من جديد، كأن فقدانه البيت كان أمراً مطلوباً منه. [/color]
[color=window****]يعترف زياد بضعفه، بأنه يتمنى دخول شقته من جديد مالكاً لها، لكنَّالشّقة الآن ليست ملكه.. [/color]
[color=window****]يصر أبو سارة على ذلك.. "البيت ما زال ملكاً لك، أنا اشتريته حتى لا يبيعه الوكيل إلى شخص لا نعرفه، اشتريته واحتفظت به من أجلك..".[/color]
[color=window****]زياد يعرف أن أبو سارة لا يملك كثيراً من المال، يدرك أنه قد يكون استدان لكي يشتري شقته، وعندما سأل الحارس عن ذلك أخبره أنه اقترض من البنك بعد أن باع أرضاً صغيرة كان يملكها في قريته البعيدة عن المدينة، لكن قيمتها لم تبلغ نصف قيمة الشقة، فاضطر لاقتراض ما تبقى من سعر الشقة حتى لا يفقد زياد شقته.. وتذهب إلى غريب لا يعرفونه.[/color]
[color=window****]ليس في الحياة ناس كثر يفعلون ذلك، هو يدرك أن لسارة دوراً كبيراً في هذا الأمر، ويعلم ما تختزنه سارة في قلبه من حب له.. ومع ذلك لا يريد الآن العودة إلى شقته.. كأنها مسكونة بالألم.. مغلولة بالعذاب.. [/color]
[color=window****]يقطع تفكيره سؤال: "وأيْنَ سَتسكنُ إذن؟".[/color][color=window****]. [/color]
[color=window****]سأله أبو سارة باستنكار.. [/color]
[color=window****]"على سطح البناء غرفة مع ملحقاتها، كان أبي يستخدمها أحياناً كمخزن لبعض الحاجيات، أعتقد أن الوكيل لم ينتبه لها، وهو في الأساس لا يستطيع بيعها لأنها ملك للعمارة كلها، سوف أنظفها وأستقر بها مؤقتاً، حتى يأتي الفرج القريب بإذن الله..". أجاب زياد بهدوء وأدب.[/color]
[color=window****]وأمام حزم زياد، ورده الذي ينبئ عن قرار وليس عن استشارة، لم يكن بيد أبو سارة حيلة.. وكتم شيئاً من الغضب يشبه غضب الأب الطيب الودود على ابنه البار المحب.. [/color]
[color=window****]كان يشعر بخيبة أمل.. [/color]
[color=window****]إن ما فعله من أجل شراء الشقة لم يحظ بتقدير زياد.[/color]
[color=window****]لم يستطع الكلام بعد ذلك.. [/color]
[color=window****]تراجع خطوتين الى الوراء، ثم هز رأسه غير راض، ومضى عائداً مكسور الخاطر.[/color]
[color=window****]"ما فعلته يا زياد كان خاطئاً.. هو اشترى البيت من أجلك أنت.. وأنت ترده خائباً"..[/color]
[color=window****]لم يتكلم زياد ولاذ إلى الصمت.. أما عصام فلم ينتظر جواباُ بل غادر المكان غاضباً هو أيضاً وتركه وحده على المقعد الخشبي.[/color]
[color=window****]هكذا تمضي أيامنا، نظن أن قراراتنا تكون حكيمة دائماً، فيما نرى في قرارات الأخيرة أقل حكمة، فلا يعي الإنسان خطأه إلا بعد فوات الأوان، فيندم، ولات حين مندم.[/color]




8– المسكن الجديد

[color=window****]استقر في "غرفة السطوح".. [/color]
[color=window****]السطح هو الملاذ الأخير للفقراء والحالمين، فليس أمَامه الآن خيارات كثيرة، القرار الوحيد بالنسبة إليه، والذي يحفظ له "كبرياءه"، هو السكن في هذه الغرفة المتواضعة، متخلياً عن شقته القديمة التي أبى أن يسكن فيها، بعد أن فقدها ولم تعد ملكاً له.[/color]
[color=window****]السطح كان مزدحماً بالصحون اللاقطة، ومساحة التحرك كانت محدودة جداً لضيق المكان.. [/color]
[color=window****]الجدران متآكلة، تحتاج إلى إعادة ترميم، وإلى صبغ جديد، كما أنَّ كل شيء في الغرفة غارق في الغبار والرطوبة، فالغرفة مغلقة منذ موت والديه في تلك الحادثة الحزينة، لم تر الشمس ولم يدخل إليها الهواء.[/color]
[color=window****]ساعات قليلة مضت وهو يقوم بترتيب الغرفة وتأهيلها.. [/color]
[color=window****]أبو سارة أحضر له بعض الأغراض الضرورية من منزله رغم كل الحزن الذي خلفه زياد في نفسه، فهو يعرف مقدار كبرياء زياد.. كما أنه كان يريد أو يشعره وكأنه واحد من أفراد من أسرته، فدعاه إلى الغداء في بيته.. لكن زياداً تحجج بأنه يريد إنهاء العمل في الغرفة لكي يستريح فيها باسرع وقت.[/color]
[color=window****]جميع سكان العمارة زاروه للمساعدة، أهل الحي كانوا سعداء جداً بعودة زياد، وقام عدد من كبار السن بزيارته والترحيب به، وكانوا نادراً ما يجلسون على السطح، إمَّا تحت الشمس وإمَّا تحت القمر، في فضاء السطح المكتظ بأجهزة الالتقاط الفضائي...[/color]
[color=window****]عرض عليه بعضهم أن يسكن في بيوت يمتلكونها، لكنه كان يعتذر بلباقة، هو يعرف أن الخير لا يضيع، وأن فضائل أبيه وأمه على أبناء الحي كثيرة، والوفاء طبع في الناس البسطاء الطيبين..هو اليوم غير زياد الماضي، عندما كان يستقبل الناس بجفاء، بل على العكس، هو يريد أن يبين لهم أنه ابن أبيه وأمه، وأنه امتداد لهما..لا يريد الإحسان.. فالكريم إذا أصابته نازلة كان عفيف النفس عديم الطلب.[/color]
[color=window****]التقى في يومين معظم سكان الحي، كثير من الفتيان والشباب جاؤوا لمساعدته، حتى أنهم قاموا بإعادة ترتيب الصحون اللاقطة وجعلوها متناسقة متدانية، حتى يوجدوا أمام غرفة زياد مساحة مناسبة تكون مثل ساحة استقبال..[/color]
[color=window****]العم خليل كان يحضر هو أيضاً بعض السندويتشات والمشروبات الخفيفة من حين لآخر..[/color]
[color=window****]عدد من شبان الحي الماهرين قاموا بمساعدته في صبغ جدران الغرفة من الداخل والخارج.. فكان لونها زاهياً لامعاً، وبدت جدرانها بأبهى ما تكون.[/color]
[color=window****]من كان يفهم بالسباكة أصلح له ما يلزم، ومن كان على دراية بالكهرباء جهَّز له الإضاءة المناسبة.. وخلال فترة وجيزة أصبح المكان لائقاً بزياد؛ ابن الدكتور رمزي والدكتور صفاء..[/color]
[color=window****]أمَّا المحامي عصام فكان يزوره من وقت إلى لآخر.. [/color]
[color=window****]وفي إحدى الزيارات طلب منه أنْ يوقِّع له على توكيل أمام المحكمة لرفع قضية ضد وكيل العمارة الذي باع ممتلكاته بالحيلة.. زياد قال لعصام إن له حرية التصرف بالأمر.. لم يخش أن يوقع له توكيلاً.. لأنه لم يعد هناك ما يخسره..[/color]



9 – زاوية السطح

[color=window****]الأيام ت[/color][color=window****]عبر أمامنا[/color][color=window****] سريعاً مثل لمح البصر، كأنَّها تفر من وحش مفترس، والساعات والدقائق لا يمكن أن تتوقف أو ترجع إلى الوراء[/color][color=window****]..[/color][color=window****] هي تمشي في عادة إدمانية.. ومن يظن أنَّه قادر على تثبيتها مختل أو مجنون.. ضياعها ضياع عمر..فهي لا تعرف التحجر ولا الجمود.[/color]
[color=window****]ومخطىء من يظن أنه يبقى على حاله بعد حين، ففي كل ثانية تحدث تغيرات في الأجساد لا ندري ما هي، لأنها غير مرئية أو محسوسة.. فهيلا تظهر عادة إلا على المدى البعيد، وقديماً قيل: إذا مضى يومك مضى بعضك.. والذكي من عرف قيمة الوقت وأنتج فيه..[/color]
[color=window****]وكان زياد مع مضي الأيام يزداد حرقة وتشوقاً إلى من يحب.. [/color]
[color=window****]رأى كل الناس ولم يصدف أن رآها.. [/color]
[color=window****]"لعلها تتعمد ذلك؟".. دون أن يسأل نفسه عن الخطوة التي اقترفها ليصحح الخطأ..[/color]
[color=window****]فهو لم يجرؤ حتى على التوجه نحو[/color][color=window****]ج[/color][color=window****]انب السطح المقابل لغرفته.[/color]
[color=window****]كان ينظر إلى الفضاء يحتفل بنجومه كأبهى لوحات الجمال، لكنه لا يقترب بضع خطوات، فهذه الخطوات القليلة كانت كافية لكي توصله إلى زاوية من السطح يطل من خلالها على شرفة سارة..[/color]
[color=window****]الإنسان الذي يخاف الماضي يخاف المستقبلأيضاً..ومن يخش ألماً يأته ما هو أشد منه..[/color]
[color=window****]فإلى متى هذا الهروب؟ ومتى ساعة العودة إلى الحياة بعد انكفاء بقرار.[/color]
[color=window****]وقد قيل:[/color]
[color=window****]ومن يخشَ صعود الجبال // يعشْ أبد الدهر بين الحفر[/color]
[color=window****]يمشي قريباً من زاوية السطح..[/color]
[color=window****]لعلَّ شيئاً ما يملك قوة جاذبة يجره إلى حيث لا يجرؤ أن يكون..لعلَّ ريحاً عاتية تأتي من بعيد،تنزعه من مكانه، وتحمله- غصباً - إلى أقصى الزاوية.. وتلقيه أمام من يحب.[/color]
[color=window****]لكنْ.. هيهات [/color][color=window****]هيهات [/color][color=window****]أنْ تأتي ريح يتمناها.. وأن يتغير واقع لا يريد هو بنفسه أن يغيره ويبدله. [/color]
[color=window****]فهل تتغير الأحوال من غير إرادة ويتحقق انتصار من غير قتال؟ وكم من متأمل ضاعت منه آمال وتناهت عنه أحلام.. يظن مخطئاً أن الآمال ستأتيه عفواً، وأن الأحلام ستتحقق دون أن يجهد فكراً أو يبذل عملاً. هو يعلم أنَّه: ما نال غايته من عوَّل الآمال على ريح صرصر عاتية.. أو من طلب الماء في صحراء قاحلة.. أو من صخرة صماء جامدة.[/color]
[color=window****]إنَّ الريحَ التي تمرُّ تمضي في طريقها بكبرياء.. لا تسأل عن محب أو مبغض، هي تحمل العبير وضده.. وتسير بلا نهاية.. بلا حدود أو هدف، تتنقل من بلاد إلى بلاد دون كلل أو ملل.. تمر على أسطح بيوت الأغنياء كما تمر على أسطح بيوت الفقراء.. سيان عندها ما بين زهر الربيع أو شوكه.. هي تمضي، وتدور حول الكرة الأرضية، تقطع المسافات دون انقطاع.. ولا تعبأ بكل من تصادفه في طريقها..لكن زياداً لا يعبأ برحلة الريح البعيدة.. يريد نسمة صغيرة تحمل شوقه لأمتار قليلة.. يريد أن يرسل وروداً مع النسمة.. ورسائل كثيرة.. من يدري! لعل واحدة منها تسقط على شرفة سارة. [/color]


10– العميدة ميشلين
[color=window****]المكوث في غرفة ضيقة فوق سطح بناء عال فسيح يثير التفكير والتأمل، خاصة مع مصاحبة وجه القمر كل ليلة..[/color]
[color=window****]إن القمر في عليائه وبهائه يعشق القاطنين في الفراغ والأماكن المرتفعة.. ينسج لهم من شاله الأبيض حكايات المساء..يملأ لياليهم بإضاءات حية، فيستغني الساكن معها عن الكهرباء في ساعات التأمل، ويمضي وقته بين أحضان القمر..وما أجمل من قمر يلقاه بوجهه المنير.. يذكره بأنه دوَّر القمر، وغفا في حضنه يرسم الصور، ويجمع من خيوطه الأمل.. [/color]
[color=window****]ساعات وساعات قضاها يتأمل.. [/color]
[color=window****]دفعته ساعات التأمل الكثيرة ليفكر بنفسه أكثر فأكثر، فإلى متى سيظل يعيش على كرم أهل الحي؟ هم يأتونه بالشراب والطعام، وحتى الكساء، أهذا هو الذي أراده له أبواه؟! أهذا هو الذي يريده ويتمناه؟!.. [/color]
[color=window****]قرر الذهاب إلى الجامعة، لكنَّ الأمرَ ليسَ سهلاً.. [/color]
[color=window****]كيف يذهب إلى العميدة ميشلين بعد أن رفض استقبالها في بيته؟[/color]
[color=window****]كيف يطلب منها أن يعود إلى الجامعة وهو لم يستجب لدعوتها له بالعودة إلى الدراسة؟[/color]
[color=window****]كيف يذهب إلى الجامعة بعد تخليه عنها فترة طويلة من الزمن؟[/color]
[color=window****]كيف يلتقي بأصدقائه الذين عاملهم بجفاء وكيف سيكون موقفهم منه؟[/color]
[color=window****]أسئلة كثيرة مزعجة.. لكنه يريد من خلالها أن يجد حلاً يتيح له متابعةحياته بشكل طبيعي.. [/color]
[color=window****]ميشلين سيدة كريمة.. بلغت منصب عميد لكلية الطب بعد أن قضت في التدريس فترة طويلة، تمكنت خلالها من استقطاب قلوب الطلاب والطالبات وجذب اهتمامهم لأنَّها صاحبة عقل وقلب كبيرين..[/color]
[color=window****]قرر الذهاب إليها.. مهما كانت النتائج.[/color]
[color=window****]تذكر كيف كانت العميدة ميشلين ترعى طلابها وطالباتها وتعاملهم كأولاد لها، تحرص على أن يحضروا ساعات الدراسة كلها، ولو تغيب أحدهم لأمر ما كانت تعيد بعض الأجزاء المهمة من المحاضرة السابقة وتطلب من المتغيب أن يقرأ الدرس جيداً ويحاول أن يفهمه، وإن وجد صعوبة في جزئية ما تطلب منه أن يسألها في الساعات المكتبية، فهي لم تبخل يوماً بمعلومة مفيدة، ولم تتبرم مرة ولم يضق صدرها من كثرة استفسارات الطلبة والطالبات، بل كانت تصر على أن يطرح الجميع أسئلتهم، وإن لم يسأل أحد الطلاب تتوجه إليه هي ببعض الأسئلة لتتأكد من أنهم فهموا الدرس جيداً..[/color]
[color=window****]تذكر بعض الأصدقاء، وخاصة زميلته دينا.. [/color]
[color=window****]كانت دينا تحرص على أن تراجع معه بعض المواد، ولطالما سألته عن أمور كانت بحاجة من وجهة نظرها لشرح وتفسير، وكان يتعجب من كثرة أسئلة دينا، مع أنها طالبة متفوقة، وتحصل على درجات عالية في الامتحانات القصيرة، وكذلك في امتحان نهاية كل فصل.[/color]
[color=window****]استعاد كثيراً من ذكريات الجامعة.. وقرر أخيراً أن يذهب في صباح اليوم التالي إلى الجامعة، ليمنح نفسه فرصة حقيقية جديدة، بدلاً من الجلوس والانتظار.[/color]
[color=window****]الترقب بلا نهاية أمر لا طائل منه، والحياة تحتاج إلى انعتاق من قيود الواقع وانطلاق إلى المجد، وإن العيش في قلب الصراع يستوجب التغلب عليه، وكما قالوا: "لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس". [/color]


11 - في مكتب العميدة
[color=window****]الجامعة في هذا الوقت من النهار تكون هادئة، ولا يظهر الكثير من الطلبة في الساحات والردهات، وكلية الطب من أكثر الكليات التي يبذل فيها الطلبة مزيداً من الجهد في الدراسة، وزيادة في الاهتمام بحضور المحاضرات وعدم التخلف عن الساعات التدريبية، فالطب مواده الدراسية مفصلة وكثيرة، وتتطلب تركيزاً ومتابعة والتزاماً صارماً بالحضور.[/color]
[color=window****]كانت سعادة الدكتورة ميشلين بدخول زياد مكتبها لا توصف.. المفاجأة السارة لم تدع فرصة لبقاء العميدة جالسة على كرسيها..نهضت بعفوية، واستقبلت ضيفها مرحبة به بحرارة عند باب المكتب: [/color]
[color=window****]"اشتقت إليك يا ولدي، ما هذه المفاجأة السارة، لقد تغيرت قليلاً.. تبدو نحيفاً وعليك آثار التعب.. الجامعة اشتاقت إليكونحن أيضاً.. زملاؤك بحثوا عنك طويلاً بعد اختفائك المفاجىء.. ودائماً نتحدث عنك".[/color]
[color=window****]كانت العميدة سعيدة جداً بعودة زياد.. وكانت من شدة فرحتها تتكلم وتتكلم.. [/color]
[color=window****]زياد الذي توجه مباشرة إلى مكتب العميدة لم يلتق أحداً من زملاء دراسته في طريقه إلى المكتب..[/color]
[color=window****]سار سريعاً حتى بلغ المكان..كان يعلم أن هذا الوقت يكون فيه معظم الطلبة مشغولون بالمحاضرات داخل قاعات التدريس أو في المختبرات..[/color]
[color=window****]استرجعت العميدة مع زياد بعض الذكريات السعيدة، كانت تتحدث بسرور لم تتسم به الدكتورة ميشلين من قبل.. فمر الوقت.. وفي حركة تلقائية، ألقت العميدة ميشلين نظرة نحو ساعة معلقة فوق الجدار المقابل لها.. فهبت من مقعدهامباشرة..صائحة: "يااااااه.. لقد تأخرتُ كثيراً.. هيا.. تعال معي يا زياد.. هيا بسرعة".[/color]
[color=window****]فوجئ زياد من التغير الفوري الذي طرأ على الدكتورة ميشلين، فقد نهضت بسرعة، ولم تكن أمام زياد فرصة للكلام، كما أنها لم تكن تنتظر منه رداً.[/color]
[color=window****]قامت العميدة على الفور..حملت حقيبتها الجلدية ذات اللون الذهبي الزاهي المزنَّر بخيوط وردية وبنفسجية، ثم سارت بخطى سريعة أقرب إلى الهرولة منها إلى المشي، فتبعها زياد مذعناً دون أن يبدي أي اعتراض..[/color]
[color=window****]وما هي إلا خطوات قليلة حتى وجد زياد نفسه وجهاً لوجه أمام الدكتورة دينا، تلك الطالبة المجتهدة التي كانت تحمل له أطيب مشاعر الود التي تجاوزت حدود الزمالة والصداقة، وكم هي حاولت مراراً وتكراراً أن تخرجه من عزلته في الأيام التي تلت الحادثة الأليمة.. وكانت تصرفاته جافة معها.[/color]
[color=window****]تجمَّد زياد في مكانه، لم يكن يتوقع هذا اللقاء، أو ربما لم يكن في تفكيره هذه اللحظة..[/color]
[color=window****]أطلقت دينا صيحة مدوية..[/color]
[color=window****]المفاجأة لم تمنح دينا فرصة لتكتم صيحتها، أو أنْ تخفي شدة دهشتها برؤية زياد أمامها بعد غياب طويل طويل، انقطع معه الأمل من عودته رغم شوقها إليه.[/color]
[color=window****]كانت تقف عندمدخل القاعة التي تجمع فيها زملاء زياد القدامى.. بانتظار وصول الدكتورة ميشلين.[/color]
[color=window****]هرع الجميع نحوها..حيث تقف في مواجهة زياد مباشرة، كان زياد مرتبكاً من الموقف.. [/color]
[color=window****]هبت صديقات دينا نحوها، وقبل وصولهن إليها، غارت عيناها، وهَوَت أرضاً.[/color]



12- سرٌّ الدكتورة دينا
[color=window****]أجرت الدكتور ميشلين فحصاً سريعاً على نبضات قلب دينا.. وبعد أن اطمأنت على سلامتها، طلبت حملها ونقلها إلى مكتبها القريب لترتاح على الأريكة.. مفاجأة عودة زياد كانت شديدة الأثر في نفسها، ما كشف عن سر كبير تحمله منذ سنوات.. لا يعرفه غير صديقتها المقربة الدكتورة فتيحة التي ظلت مع صديقتها دينا في مكتب الدكتورة ميشلين..[/color]
[color=window****]وفي قاعة التدريس كان الطلاب والطالبات زملاء زياد القدامى يعبرون عن فرحتهم الكبيرة بعودة صديقهم القديم بعد أنْ اطمأنوا على صحة زميلتهم دينا..[/color]
[color=window****]زياد بالنسبة إليهم ليس زميلاً فقط، بل أخ وصديق للجميع.[/color]
[color=window****]قالت الدكتورة ميشلين وهي تضحك: "يا دكتور زياد، لقد ضيعت على زملائك درساً مهماً.. هم انشغلوا بك فطارت من عقولهم الدارسة".[/color]
[color=window****]أطربت عبارة "يا دكتور" أذني زياد.. كان سعيداً جداً بسماعها من الدكتورة ميشلين. [/color]
[color=window****]وقبل أن يعلق بكلمة أردفت قائلة: "سوف تضطرني للقيام بلقاء إضافي حتى أشرح الدرس من جديد..لذا فإني سأعاقبك عقاباً قاسياًعلى ذلك.. وعقابك هو قبول دعوتي إلى فنجان قهوة في استراحة المدرسين، مع كل زملاء الفصل، وفوراً، بعد أن تعود إلينا دينا بصحة وعافية، ولن أقبل أي عذر.. والنقاش بالموضوع غير مسموح إطلاقاً".[/color]
[color=window****]"نعم..نعم..نعم..". [/color]
[color=window****]طلاب الفصل يعلنون بصوت واحد موافقتهم على دعوة الدكتورة مع التصفيق والضحك..[/color]
[color=window****]أما زياد فلم يضحك.. [/color]
[color=window****]ظن البعض أن سبب ذلك هو أنه ما زال على حزنه القديم.. لكنه كان يفكر في هذه اللحظات بالدكتورة دينا وبما أصابها.. وحتى لا يحرج نفسه بالأسئلة الكثيرة؛ ابتسم دون أن يبدي أي اعتراض على حكم الدكتورة ميشلين.. "المبرم".[/color]
[color=window****]وقبل أن تزول الابتسامة عن وجهه دخلت فتيحة عائدة من مكتب العميدة، فرأت الجميع يضحكون.. فضحكت معهم دون أن تدري ما السبب، ثم أخبرتهم أنَّ دينا بخير، وشربت قليلاً من الماء البارد.. وأنها سعيدة جداً بعودة زياد.. ولم تكد فتيحة تنهي جملتهاحتى دخلت عليهم دينا فنهض الجميع لاستقبالها، فيما أسرع زياد نحوها وفي عينيه بريق جديد.. كأنَّه اكتشف شيئاً غاب عنه سنين مديدة.[/color]
[color=window****]ما أغرب هذه الدنيا.. بل ما أشد غرابتها!.. لا يدرك الإنسان في أحيان كثيرة أهمية أمر ما إلا في وقت متأخر وفي ظروف غير مناسبة، ولا يعرف قيمة الأشياء عندما تكون قريبة منه وفي متناول يده، فيعتاد عليها من كثرة ما يراها، يظنُّ أنها شيئاً عادياً بسيطاً، فيقوم بالبحث عن أشياء أخرى قد تكون أقل قيمة ومكانة، فيخسر الأولى ولا يعثر على ما يضاهيها.[/color]
[color=window****]فتيحة تعلم أنَّ دينا تحب زياداً.. واليوم [/color][color=window****]وصلت هذه الرسالة إلى[/color][color=window****] الجميع، غير أنَّ دينا عندما عادت حاولت أن تظهر أنَّ ما حدث لها كان بسبب اهتمامها بزياد كأخ وزميل، ولِمَا تحمل له في نفسها من معزَّة على مقاعد الجامعة..كانت كلماتها لتبديد القناعة التي سادت لدى الجميع محاولة فاشلة، بل زادت شكوكهم.. لتصبح يقيناً عندهم..[/color]


13– مشاعر زياد ومشاعر دينا

[color=window****]شعر زياد بالخجل والارتباك من هذا الموقف.. فقلبه ليس فارغاً.. والجميع يعلم أنَّه يحب سارة، لطالما كان يخبرهم عنها، كما أنَّها جاءت مرات عدة معه إلى الجامعة ليعرِّفها على زملاء الدراسة، كما أنَّ الدكتورة دينا تعرف هذا الشيء، ولم تكن تبدي أي إشارة أو تلميح يظهر ما تحمله في قلبها من مشاعر نحو زياد.. أمَّا اليوم فقد كشفتها المفاجأة..[/color]
[color=window****]دينا ا[/color][color=window****]نزعجت من [/color][color=window****]إفشاء سرها، هذا السرُّ الذي حملته في قلبها سنيناً، ولولا أنَّها شعرت بمدى الحاجة إلى من يشاركها هذا السر ليخفف عنها لوعتها؛ لما أخبرت صديقتها المقربة فتحية، التي تعرفها منذ سنوات طويلة تعود أيام المدرسة.[/color]
[color=window****]قالت دينا ضاحكة بعد أن أخبرتها العميدة بدعوتها - وهي تخفي ارتباكها - قبل أن يتوجهوا جميعاً نحو مطعم الجامعة لتناول القهوة الاحتفالية التي دعتهم إليها الدكتورة ميشلين على شرف زياد: "دكتورة.. نحن نقبل دعوتك.. لكن لدينا شرط واحد".[/color]
[color=window****]نظر الجميع نحو دينا باستغراب..[/color]
[color=window****]"الآن ليس وقت الشروط يا ست دينا!".. أجابت الدكتورة ميشلين بابتسامة عريضة.[/color]
[color=window****]فقالت دينا: "ومع ذلك؛عندي شرط لا بد وأن يتحقق.. وأنا أكيدة أنَّ جميع الزملاء سوف يؤيدونني ويساندونني بإصرار".[/color]
[color=window****]تنهدت الدكتورة ميشلين.. وقالت ضاحكة: "تفضلي يا ست دينا.. يا دكتورة دينا.. قولي شرطك، اسمعينا دررك، وربنا يساعدنا عليك ويقوينا على تنفيذ شروطك!".[/color]
[color=window****]يضحك الجميع من تعليق الدكتورة ميشلين التي نادراً ما تتحدث بمثل هذه الطرافة، حيث يغلب على طبيعتها الجد الذي تفرضه طبيعة مهنتها وشخصيتها.. [/color]
[color=window****]تقول دينا كلمات تختلط مع ضحكات الجميع: "شرطي الوحيد أن تعديننا بأن يعود زياد إلى الدراسة من جديد".[/color]
[color=window****]ومَا أنْ نطقتْ دينا بشرطها حتى ساد صمت تام في أنحاء القاعة..[/color]
[color=window****]توجهت العيون كلها نحو الدكتورة ميشلين.. كأنهم في لحظات سعادتهم بعودة زياد غاب عنهم هذا الأمر جميعاً.. شرط دينا أحدث صدمة.. جعل الجميع يترقب رد الدكتورة ميشلين بصفتها العميدة المسؤولة.[/color]
[color=window****]لم ترد العميدة أنْ تسرق منهم فرحتهم بعودة زياد.. لم ترد أن تتلاعب بمشاعرهم، وأن تتعب قلوبهم بردود غير واضحة، لم تُردْ العميدة أن تمارس عليهم ما يمارسه بعض أصحاب المكانة من مواقف صلبة مترددة، لكي يشعروا الآخرين بأهميتهم.. وهذا من أسرار محبة الطلاب جميعاً لها..[/color]
[color=window****]قالت هذه المرة بجدية بالغة: "سيعود زياد إلى الجامعة رغم أنف من لا يريد ذلك".[/color]
[color=window****]هي لحظة نادرة من لحظات الحياة، لحظة ساحرة لا تقدر بثمن.. [/color]
[color=window****]تصاعد صوت الزملاء في الأرجاء..كان المكان كله سعيداً بهذه الصيحات الرائعات.. فكم هو مشرق ذاك الشعورالنبيل المنثور بالحب والمشحون بالأمل.. شعور التآخي بين الأصدقاء الذي لا يثمر إلا خيراً.. وكم هو رائع فرحنا لفرح الآخرين، وعوننا لهم حتى يملأوا سلال الأحلام بغلال الواقع..[/color]


14 – القانون هو القانون.. ولكن!
[color=window****]كان زياد موقوفاً عن الدراسة لتغيبه عنها لمدة تزيد عن ثلاثة فصول متتالية دون أن يقدم عذراً.. والجامعة توقف قيد من يتغيب فصلين متتاليين دون عذر مقبول..وبسبب تغيبه تمَّت أحالة ملفه إلى لجنة لدراسته حالته، وتم إرسال رسالة تحذير من إدارة الجامعة على عنوان سكنه، وعندما لم تتلق أي رد منه تم وقف قيده، فلم يعد يحق له متابعة الدراسة من جديد.. وهذا كله كان بحسب ما يفرضه القانون الداخلي للجامعة.. لكن القانون ليس كل شيء.. هو جزء من حياة.. وعندما يتعارض القانون مع مصلحة الإنسان، يتم تغليب كفة الإنسان لأنه هو الأهم.. وهذا ما تفهمه العميدة وهذا ما ستسعى لتحقيقه.[/color]
[color=window****]العميدة ميشلين أرادت تجاوز كل القوانين، هي تريد أن تجعل من عودة زياد إلى مقاعد الدراسة قضية مصيرية بالنسبة لها.. تبنت هذه القضية بكل إيمان، ورفضت أن تثنيها أية معوقات عن الهدف الذي ستصب كل جهدها من أجل تحقيقه رغم العقبات.[/color]
[color=window****]حملت أوراقه وتوجهت مباشرة وبنفسها إلى رئيس الجامعة بعد أن طلبت موعداً مستعجلاً منه، فاستقبلها في اليوم نفسه، لأنه شعر أن في طلب العميدة أمراً شديد الخطورة..[/color]
[color=window****]وعندما التقته العميدة بادرت فوراً إلى شرح ما تريده، ثم تحدثت عن ظروف زياد الخاصة..[/color]
[color=window****]لكن رئيس الجامعة رفض طلب الدكتورة ميشلين: "ليس الأمر بهذه البساطة.. فالقانون هو القانون".[/color]
[color=window****]لم ترض الدكتورة ميشلين أن ترضخ لموقف رئيس الجامعة وأن تستسلم للقوانين التي لا تراعي ظروف الطلاب، فلكل طالب ظروفه الخاصة، ولا يمكن الحكم على جميع الحالات بمنظار واحد، وحتى لو كان ذلك قانوناً، فهو ليس مقدساً، ومصلحة الطالب هي أهم من القانون نفسه؛ لأن القانون وضع لخدمة الطالب، وعلى القانون أن يستشعر ظروف الطالب القاهرة، والتي قد لا تتناسق في بعض الأحيان مع بنود القانون، رغم أهميته، وحرص الدكتورة على تطبيقه بحذافيره.[/color]
[color=window****]فتحايلت العميدة على رئيس الجامعة، وراحت تبدي له الحجة تلو الحجة، لكنه لم يقبل بأخذ قرار منفرد.. [/color]
[color=window****]وبعد أْنْ لاحظ إصرارها الشديد وتمسُّكها بطلبها حتى النهاية، اقترح عليها أن ترفع طلب استثناءإلى مجلس إدارة الجامعة متضمناً كتاباً تفصيلياً، تشرح فيه سبب الاستثناء الذي تطلبه، على أن تبدي فيه رأيها بضرورة عودة زياد إلى مقاعد الجامعة،تقديراًلظروفه الخاصة والدوافع التي تستوجب ذلك..واعداً إياهاً بأنه لن يتأخر لحظة واحدة عن التوقيعكرئيسللجامعة على قرار الاستثناء، وذلك بعد قيامها بإقناع مجلس الإدارة بصفتها عميدة وعضوة في المجلس الذي يعود له في النهاية الموافقة على طلبها أو رفضه.. [/color]
[color=window****]أيام قليلة مرت..[/color]
[color=window****]وفي أوَّل اجتماع لمجلس الإدارة صدر قرار بعودة زيادة إلى الدراسة، ليس من الفصل المقبل، بل من الفصل الحالي الذي لم يكمل شهره الأول، لكن القرار اشترط على زياد أن لا يحصل في أي مادة على درجة أقل من جيد جداً في الفصل الحالي، وهو الفصل الذي يجب عليه أن يعاود الدراسة فيه..[/color]
[color=window****]غمَرت السَّعادة زياداً من جديد.. عادت إليه البهجة التي افتقدها شهوراً طويلة.[/color]
[color=window****]إلتأم عقد أصدقاء الدراسة ليحتفلوا بالمناسبة، رغم علمهم بأنَّ زياداً لن يتمكن من المتابعة معهم لأنهم سبقوه بفصول عدة.. لكنَّ الصداقة ليست صداقة محدودة بفصل أو قاعة دراسة.. الصداقة لا تعرف جدراناً ولا مراحل.. فهي عنوان المحبة المشحون بالفرح والإلفة والوفاء..[/color]

15– الدراسة والعمل
[color=window****]استعد زياد لمعاودة الدراسة.. لكنه يحتاج إلى رصيد مالي ليتمكن من تسديد رسوم الدراسة ومصاريفها، وكانت المفاجأة الثانية أنَّ الكلية أعفته من كامل الرسوم والمصاريف إكراماً لوالديه الطبيبين، كما ساعدته العميدة على العمل في مختبرات الكلية على أنْ يتم السماح له بحضور المحاضرات ويداوم بين المحاضرات وبعد الظهر أيضاً.. وبذلك اكتملت جميع الظروف التي تسمح لزياد بمتابعة دراسته بانتظام دون قلق على الحاضر والمستقبل.[/color]
[color=window****]الأيام الأولى كانت شديدة الصعوبة بسبب توقفه الطويل عن الدراسة، كما أنه لا يعرف زملاء الفصل الجديد، فزملاؤه القدامى أعلى منه الآن بعدة فصول، وعليه أن يبذل مجهوداً كبيراً ليتمكن من اللحاق بهم.[/color]
[color=window****]ما أصعب هذه الأيام التي يعود بها الإنسان باختياره إلى زمان كان من المفترض أنه انتهى من بعيد، فيجد الناس غير الناس، والمكان غير المكان، فيقع في مأزق لا خيارات كثيرة فيه، إمَّا التراجع والاستسلام، وإمَّا التحدي والصبر والكفاح.. لكن كما يبدو واضحاً للعيان؛ فإنَّ زياداً اختار الخيار الأخير، وقرر خوص غمار الصعاب بلا خوف أو وجل، فالتحدي القائم على الأمل يمنح صاحبه الكثير من الثقة والإصرار، والرغبة بتحقيق النصر وإنْ كثرت الصعاب.[/color]
[color=window****]أما[/color][color=window****] الدراسة فكانت تمضي بانتظام، لكنه تأخر عن زملائه ثلاثة فصول كاملة، وهذا ما سيضطره لقضاء فترة أطول بالدراسة، لكنه قرر مضاعفة جهوده وزادة عدد المواد التي سيتسجل فيها، والدراسة أيضاً في الفصل الصيفي لكي يلحق بزملائه.. [/color]
[color=window****]وكانت مكافأة العمل جيدة، [/color][color=window****]هذا أول راتب كبير يحصل عليه في حياته، فقام بزيارة القاعة التي يوجد فيها زملاء فصله القديم، وأحضر معه طبقاً كبيراً من الحلوى المنوعة، ثم قصد مكتب العميدة ميشلين وقدم لها طبقاً مماثلاً.. [/color]
[color=window****]وفي اليوم نفسه، ذهب زياد إلى العم خليل، وكان العم خليل يزوده بحاجياته الضرورية وببعض المال ويقول له: "كل هذا من خيرات أبيك وأمك"..[/color]
[color=window****]وقف زياد أمام العم خليل.. وكان يرتدي بذلة جميلة أنيقة.. زياد يملك الكثير من الملابس والأغراض الشخصية في بيته القديم، وقد أحضر له أبو سارة بعضاً منها، لأنَّه لم يقبل الدخول الشقة طوال الفترة الماضية.. وكان أبو سارة يطلب من العم خليل أن يسلم الملابس لزياد لأنه لا يزال غاضباً منه.. كان يرتدي أجمل تلك الملابس الفاخرة كانت تختارها له أمه من أفضل الماركات العالمية، وخصوصاً عندما كانت تقوم بالسفر مع أبيه إلى بعض البلاد، ومنها بشكل خاص فرنسا..[/color]
[color=window****]أخرج من جيبه الراتب كاملاً ثم قائل: "هذا ما حصلت عليه هذا الشهر، وما سأحصل عليه كل شهر إن شاء الله.. خذ المبلغ الذي تريده.. ففضلك علي كبير".. [/color]
[color=window****]لكن العم خليل رفض بإصرار أخذ قرش واحد.. وقال له إنه سيأخذ منه اعتباراً من الشهر المقبل، أمَّا الآن فهذا المال حلال عليه بالتمام والكمال.. فهناك أشياء كثيرة عليه شراؤها.. وسوف يبدأ بتسجيل الحساب عليه من الشهر الجديد.[/color]



16 – موقف سارة

[color=window****]قال له العم خليل بإعجاب: "جميل ما ترتديه اليوم يا زياد!"..[/color]
[color=window****]تذكَّر زياد بيته.. وتذكَّر أنَّه كان يسعد كلما ارتدى ثياباً جديدة عندما كان يلتقي بسارة.. [/color]
[color=window****]ألقى ببصره على النافذة المطلة مباشرة على شرفة بيت سارة دون أن يتجرَّأ على النظر إلى الناحية الأخرى..أخذ نفساً عميقاً.. وطلب من العم خليل دون مقدمات وكأنه تذكر أمراً لا بد منه، طلب أن يقول لأبو سارة أنه يرغب بزيارته في بيته..[/color]
[color=window****]دهش العم خليل بهذا الطلب المفاجىء.. [/color]
[color=window****]طوال الفترة التي أعقبت عودة زياد لم يطلب طلباً مماثلاً، كما أنه لم يلتق أبو سارة إلا مرة واحدة في الحديقة في يوم عودته. وكان أبو سارة أخبرالعم خليل بما حدث بينهما، وكذلك المحامي عصام.. ورغم تفهم أبو سارة لموقف زياد إلا أنه ما يزال يشعر بأنه لم يقدر ما فعل من أجله.[/color]
[color=window****]العم خليل كان سعيداً جداً بطلب زياد.. وقال:"عندما أرى أبو سارة سأخبره.. لا بد أن يمر بعد قليل.. فموعد عودته من العمل أصبحت قريبة".[/color]
[color=window****]لم يتأخر أبو سارة كثيراً.. وعندما وصل الحي بادره العم خليل بالحديث قائلاًإن زياداً يريد زيارته في بيته..[/color]
[color=window****]أبو سارة تفاجأ من هذا الطلب، وبدت آثار المفاجأة بكل وضوح على قسمات وجهه.. لكنه لم يصدر أي تصرف يثير الاهتمام.. هز برأسه موافقاً.. "لا بأس.. اليوم مساء أنا موجود في المنزل.. أهلا به ومرحباً.. سأنتظره عند الثامنة".[/color]
[color=window****]في البيت كان الموقف مختلفاً.. سارة سكنت طوال الفترة الماضية داخل غرفتها، دون أن تفتح نافذتها حتى لدخول الهواء، كانت تنزل الستائر على الدوام ولا تسمح للشمس بدخول الغرفة، كانت لا تريد أن ترى زياداً.. لم تعط نفسها فرصة واحدة، انتظرت قدومه كثيراً.. لكنه لم يحاول حتى الالتقاء بها.. [/color]
[color=window****]"ماذا يريد اليوم.. لماذا يأتي! لا أريد أن يدخل بيتنا".[/color]
[color=window****]راح الأب يهدىء من روع ابنته.. "لا تغضبي يا حبيبتي، لقد وافقت على طلبه، لا أستطيع الآن أن أعتذر، أبلغت العم خليل بأنني سأنتظره الساعة الثامنة".[/color]
[color=window****]لم تستطع سارة كتم دمعات سقطت من عينيها.. [/color]
[color=window****]قلبت شفتيها، ثم توجهت نحو غرفتها غاضبة وأغلقت الباب..[/color]
[color=window****]"في الحقيقة يا أم سارة أنا أريد أن أعرف ما يريد.. [/color]
[color=window****]هل تظني أنه قد يتكلم على سارة، هل سيطلب يدها للزواج؟[/color]
[color=window****]هذه الفتاة المسكينة طال انتظارها له، كانت تتمناه زوجاً.. [/color]
[color=window****]لكنه منذ عودته لم يحاول حتى أن يكلمها، وعندما عرضت عليه العودة الى بيته رفض لك، وكأنه لا يريد فتح أي حوار معي، كأنه يريد أن يغلق الماضي على كل ذكرياته"..[/color]




17 - في بيت سارة

[color=window****]عندما دقَّت السَّاعة الثامنة مساء.. كان زياد يقف خلف الباب وينظر إلى ساعته، وبعد أنْ تأكَّد من دخول وقت الموعد.. رن جرس الباب..[/color]
[color=window****]"ما شاء الله.. دقَّة في المواعيد.. يذكرني بأبيه، كان حريصاً جداً على مواعيده، وكنت متأكداً أنه سيصل في الموعد المناسب".[/color]
[color=window****]"توكل على الله يا أبو سارة.. اذهب وافتح له الباب.. قابله بهدوء ولا تعاتبه على شيء.. استمع إلى ما سيقوله إليك.. وعسى الله أن يجعل من بعد عسر يسرا". [/color]
[color=window****]قالت أم سارة ذلك.. وكانت تتمنى أنْ تنال ابنتها الزوج الذي تريده، بعد أنْ رفضتْ كلَّ الذين تقدموا إليها معلنة أنها لن تتزوج وستبقى عزباء طوال عمرها.[/color]
[color=window****]بيت سارة بسيط وعادي، [/color][color=window****]فأبوها موظف بسيط، و[/color][color=window****]زياد يعرف هذا البيت جيداً، ولطالما دخل إليه في سنوات الطفولة، ما أجمل أيام الطفولة ببراءتها ونبلها، ما أجمل تلك الأيام التي تخلو من هموم الحياة..[/color]
[color=window****]استقبله أبو سارة بترحاب شديد، كان يحمل في نفسه أملاً..[/color]
[color=window****]لمَّا جلس زياد على الكنبة كان يخالجه شعور غريب، هاهو اليوم يدخل بيت سارة، يتنسم الهواء الذيتتنفسه.. تلفه مشاعر الأمل بلقاء سارة بعد فراق طويل.. [/color]
[color=window****]انتابته قشعريرة سرت في أنحاء بدنه وهو يهم بالجلوس في "بيت تعيش فيه سارة".. [/color]
[color=window****]"ترى أين هي الآن؟؟ هل ستأتي وتسلم علي؟".[/color]
[color=window****]كان يفكر بكل هذه الأمور ويترقب رؤية سارة.. ومضى الوقت.. ولم تأت سارة..[/color]
[color=window****]دار حديث بين أبو سارة وضيفه.. كان الحديث بمجمله عاماً عن الجامعة والدراسة والعمل.. لم يقل زياد ما يريد، ولم يسمع أبو سارة ما يريد..[/color]
[color=window****]وفي النهاية.. [/color]
[color=window****]"لقد جئتُ إليك اليوم يا عمي لأمر أرجو أن يلقى موافقتك".[/color]
[color=window****]فرح أبو سارة بهذا الكلام وانفرجت أساريره.. [/color]
[color=window****]ها قد أتت أخيراً اللحظة التي ينتظرها، معتقداً أنه سيسمع الآن الكلام الذي يتمناه.. [/color]
[color=window****]"تفضل يا زياد قل ما عندك".[/color]
[color=window****]"في الحقيقة يا عمي.. أنا الآن أصبحت أعمل ولدي راتب ثابت..".[/color]
[color=window****]"نعم.. تابع".[/color]
[color=window****]"أرجو.. أرجو أن توافق على أن استأجر منك شقتي – آسف – أقصد شقتك، وسوف أدفع لك الإيجار الذي تراه مناسباً وأرجو أن يتناسب مع راتبي البسيط...".[/color]
[color=window****]وقبل أن يكمل زياد كلامه انتفض أبو سارة واقفاً.. وقال بصوت مرتفع: "..ماذا؟".[/color]
[color=window****]كان زياد يعرف وضع أبو سارة المادي، وأنه يسدد قرضاً مالياً شهرياً للبنك، وهو يريد أن يخفف عنه قيمة القسط الشهري من خلال ما يريد أن يدفعه له من إيجار..[/color]
[color=window****]استغرب زياد من ردة فعل أبو سارة، فهو لم يقل له شيئاً يظن أنَّه مزعج له، لكن أبو سارة أسرع إلى مدخل البيت، وفتح الباب، وقال له: "تفضل.. ليس عندي شقة للإيجار.. تأخر الوقت، وأريد أن أنام".[/color]

18 – سارة تتألم أكثر

[color=window****]كانت سارة تنصت من وراء الباب.. قلبها البريء ذهب بها الى مكان آخر.. تحزن ويزداد اكتئابها.. أبو سارة رفض أن يؤجره الشقة .. "الشقة ليست للإيجار".. لم يقم بشرائها لكي يؤجرها.. لماذا لم يفهم زياد ذلك.. لكن زياد يفكر بطريقة مغايرة.. يريد أن يساعد أبو سارة على تسديد القرض، كما أنه لا يريد أن يشعر بأنه ضيف في بيته..[/color]
[color=window****]ما أصعب أن يصبح الإنسان ضيفاً في بيته، سجيناً في ملكه.. فالدنيا لا تبقى على حالها، والرضا بالواقع مهما كان صعباً ضروري للتحدي.. أمَّا الثبات والمقاومة لتحقيق الانتصار، دليلان على حب الحياة.. وإرادة النضال من أجل ما نحب.[/color]
[color=window****]خرج زياد وقلبُه ينزف ألماً،[/color][color=window****] لم يكن رد أبو سارة كافياً ليستيقظ من غفلته، ليعود إلى واقعه، ليدرك أن الهروب من الحياة لا يعني أنّ الحياة لن تلحق به، فعليه أن يستوعب الدرس ولا يكرر الأخطاء، غير أنه لم يستفد من كل تجاربه، ما زال يحلق في عالم بعيد عن الواقع.[/color]
[color=window****]أمُّ سارة حاولت أن تهدئ من روع ابنتها، وكانت تشاركها الحزن بحزن مماثل، بل وحنق على زياد وتفكيره الذي جعل من حياة ابنتها سجناً وجحيماً لا يطاق.. كانت زيارته رمحاً جديداً قذفه في قلب سارة، لم تكن تحتاج إلى مزيد من الجراح، يكفي ما لديها من جراحات السنين. [/color]
[color=window****]يظن نفسه واهماً؛ أنَّه الوحيد المجروح..وما هو إلا واحد بين ملايين من الناس الذين يعانون ويعانون، لكنهم ينتصرون في النهاية على معاناتهم، أو على الأقل يثبتون ويقاومون الألم، ويحتفظون بمن حولهم، دون أن يتخلوا عنهم، أو يفكروا بأن يعاقبوهم على خَطب ليس لهم فيه أي مسؤولية.[/color]
[color=window****]كبرت آلام سارة حتى ملأت حيطان البيت وزواياه.. لم تعد تطيق جلوساً ولا رغبةبالبقاء لحظة واحدة في هذا المكان.[/color]
[color=window****]اقترح أبو سارة على زوجته أن تذهبا إلى بيت صغير لهم في قريتهم البعيدة، حتى تهدأ سارة وتتجاوز محنتها، علها تنسى بعض ما حدث، فالأمر يشتد على سارة، وهي التي كانت تعتقد أنَّ عودة زياد سوف تعيد الأيام الخالية، وتنهي فصلاً أليماً عبر بكثير من الجراح؟[/color]
[color=window****]هكذا وببساطة اختفت سارة من بيتها، كما اختفت قبل ذلك من الحي، لكنَّها لم تختفي أبداً من قلبه..[/color]
[color=window****]أخبره العم خليل أن سارة غادرت البيت برفقة أمها إلى منزلهم في القرية.. [/color]
[color=window****]حاول العم خليل أن يستفسر عن الأمر من أبو سارة، لكن أبو سارة لم يكن يجيبه.. كان يهز رأسه كلما سأله عن، ثم يسير في طريقه كئيباً ساهماً.. [/color]
[color=window****]أما زياد فلم يعد يتكلم كثيراً وكأنه غير مكترث بما حدث.. لم يعد يزور العم خليل، ولم يعد يقضي كثيراً من الوقت في غرفة السطوح.. كل وقته الآن مكرس للجامعة، غارق ما بين الدارسة وفي العمل..[/color]
[color=window****]لقد أخطأ بحق سارة، وقادته الظنون إلى مكان بعيد، حيث يرى واهماً أن سارة لم تعد تريده.. [/color]
[color=window****]كم هو ضال الإنسان عندما يحكم على تصرفات الآخرين من خلال احتمالات بعيدة عن الواقع وأقرب إلى الأوهام التي لا تنطبق على الحقيقة، دون أن يحتكم إلى الشخص نفسه الذي يحكم عليه، وحتى لو كان يدرك أنَّ بعض حكمه خاطئ؛ فإنَّه لا يبذل جهداً لمعرفة الحقيقة من صاحب الشأن نفسه، ولطالما أحدث ذلك خلافات كثيرة وجراحات كبيرة لم تندمل بسهولة.. علماً أنه لم تكن لتحدث لو تمت المصارحة، وابتعد عن الاكتفاء بالسلبية حيال ما يحدث.[/color]
19 – دينا وزياد

[color=window****]ينصرف زياد إلى دراسته وعمله، وتحاول الدكتورة دينا في هذه الأثناء أن تخفف عنه أحزانه، كما تحاول أن تتقرب منه عله يقدر ما تحمله له من عاطفة شريفة لم تجرؤ من قبل عن الإفصاح عنها..[/color]
[color=window****]كانت دينا تسأله عن سارة من حين لآخر لكنَّه لم يكن يجيبها على هذا السؤال تحديداً، كان يقلب شفتيه، كتعبير عن جهله.. أو ربما عن تجاهله.. [/color]
[color=window****]تشعر أن زياد يتهرب منها، لكنَّها الآن باتت تعتقد أنَّ لديها فرصة ذهبية لامتلاك حبها القديم، هذا الحب الذي لم تجد له يوماً نافذة مفتوحة على حياة يمكن لها أن تطل منها، ولا حتى قطرة ماء باردة من جدول عذب تروي بها غليلها..[/color]
[color=window****]زياد في عالم آخر، لم يلحظ يوماً حب دينا له.. كان قلبه ينفطر حزناً على سارة.. فهو ملك لها بلا منازع، وكل ما في حياته يخبر عن ذلك، كان يتحدث عن سارة في كل آن ومكان، لو كتب شعراً كتب عن سارة، لو كتب نثراً.. كتب عن سارة.. إذا فكر برقت في فكره سارة، وإذا نام راودته في الحلم سارة.[/color]
[color=window****]قررت دينا أمراً لم تقرر مثله من قبل.. اليوم القضية بالنسبة لها حاسمة، وقد تكون فرصة لا تعوض..[/color]
[color=window****]تبحث دينا عن هاتف سارة.. [/color]
[color=window****]تطلب من أحد الأصدقاء أن يساعدها بذلك.. وفور حصولها على رقم هاتف سارة تتصل بها وتبادرها بالقول:"أنت حلم قديم.. أنت سراب وأنا حقيقة.. أنت لست بمستواه.. هو سيصبح طبيباً وأنت لست جامعية.. لستِ أهلاً له، أنت لا تريدينه وهو لا يريدك؟ فلماذا تعذبينه؟ ألا يكفي ما فعلت به حتى اليوم؟ لو كان حبك صادقاً لما تركته يتألم!".[/color]
[color=window****]تسمع سارة كلام دينا، تظل صامتة لا تتكلم.. لم تدافع عن حبها..لكنها ترفض الاستماع مرة أخرى إلى كلام دينا.. كانت مندهشة من موقفها الجديد، فهي لم تكن تشك بً بدينا أو بزياد، ولا تتخيل للحظة أن تصبح دينا زوجة زياد. [/color]
[color=window****]لم تكن دينا باتصالها بسارة تريد أن تهدم هذا الحب الذي يربط بين قلبي سارة وزياد، بل كانت تريد أن تكون حافزاً لسارة لكي تستعيد حبها وتتمسك به أكثر.. هي تدرك تمام الإدراك أنَّ حبّسارة لزياد حبٌ حقيقي قوي، لا كما يعتقد زياد.. لأنه ما زال في محنته، والغشاوة تحيط بناظريه، لهيمنة مشاعر الحزن على قلبه..أرادت أن توقظ هذا الحب، بعد أن اختبرت حب زياد.. فلا تريد أن يحترق قلباهما كما احترق قلبها.. قررت أنْ تفعلَ ما لمْ يفعلْهُ أحدٌ من قبل.. قررتْ أنْ تجمَع الحبيبين بعد فراق.. لكنَّ زياد لم يعد قادراً على قبول أي اقتراح.. [/color]
[color=window****]انصب اهتمامه بشكل كامل على الدراسة والعمل، وبخاصة بعد أن أخبرته العميدة ميشلين عن اختياره للسفر في بعثة إلى فرنسا للدراسة فصلاً كاملاً في الجامعة نفسها التي تخرج فيها أبواه.. [/color]
[color=window****]كان هذا الخبر ساراً ومفاجئاً.. فهو يعرف هذه الجامعة جيداً.. ذهب إليها مراراً مع والديه، ويعرف فيها الكثير من أصدقائهما.. فلم يتردد بقبول البعثة لحظة واحدة، لا سيما وأنها تشكل فرصة سانحة للابتعاد قليلاً عن الواقع المؤلم الذي ما زال يمر به، وفرصة للابتعاد أكثر عن خيالات سارة التي ما زالت تحيط به من كل جانب، كما يحيط السوار بالمعصم. وكان يبدو أن زياداً لم يتعلم من تجاربه السابقة.. فهو ما يزال يريد الهرب.. كأنه أصبح مدمناً للهرب الدائم، والنزوح إلى تسلية نفسه وإلهائها عن الواقع، بدلاً من مواجهة الحقيقة والإنصات إلى صوت القلب.[/color]


20 - السفر إلى فرنسا

[color=window****]وصل زياد إلى فرنسا، كانت الجامعة مكاناً لتجديد الحزن على فراق الوالدين، خاصة أن كثيراً من المدرسين كانوا يعرفون والديه، وكان الحديث معه يدور دائماً عنهما، وكان يسمع كلاماً عن والديه لم يكن يعرفه من قبل.[/color]
[color=window****]عرف زياد ما كان يتمتع به والداه من احترام كبير في كثير من المؤسسات الطبية الفرنسية، لما كانا يبذلانه بمساعدة المرضى المحتاجين في بعض المناطق المنكوبة في العالم، ما كان يسمعه عن والديه زاد من فخره بهما، واعتزازه بما كانا يبذلانه، وكان الأطباء المدرسون غالباً ما يقولون له إنه يملك الكثير من المواصفات التي كانت تجمع بينهما..[/color]
[color=window****]شعر بمزيد من المسؤولية حيال والديه وحيال الناس الذين ينتظرون منه أن يرث مناقب والديه، فانغمس في الدراسة بشكل لم يسبقه إليه طالب طب، حتى كاد يصل الليل بالنهار، ما بين الجامعة أو بين أرفف المكتبات في الدراسة النظرية، وقضاء الوقت في أروقة المستشفيات أو على طاولات المختبرات للدراسة العملية التطبيقية، وكان كل يوم يمضي يلفت إليه اهتمام المدرسين الأطباء..[/color]
[color=window****]ومضت عدة شهور وهو على هذه الحال، أدرك الجميع حماسه ونبوغه، والجامعات التي تعي قيمة العلم لا تتخلى حتماً عن طلابها المميزين، ولا تتركهم دون أن ترعى وتستفيد من تميزهم.. [/color]
[color=window****]وقبيل انتهاء الوقت المحدد الذي تكتمل فيه البعثة مع اقتراب عودة زياد إلى جامعته وبلاده، فوجىء بتمديد البعثة له عاماً كاملاً.. وبقرار صرف مكافآة كبيرة له، تقديراً لإنجازاته خلال الشهور الماضية، وتشجيعاً له على مواصلة العلم والتميز، حتى يكون هو وأمثاله حافزاً لغيره من الطلبة على بذل أقصى جهد ممكن لتحقيق الأفضل دائماً.[/color]
[color=window****]كانت المكافأة الكبيرة التي نالها زياد تتضمن جانباً معنوياً وآخر مادياً، وكان مبلغ المكافأة يوازي راتب سنة كاملة في عمله بمختبرات الجامعة التي كان يعمل فيها، ما جعل زياد يشعر بفرح غامر لا يوازيه فرح، لقد كان عنده هم كبير يريد أن يخلص منه، وعلى الفور أرسل المبلغ كاملاً إلى العم خليل طالباً منه أن يضع المبلغ في البنك الذي اقترض منه أبو سارة ليسدد جزءاً كبيراً من القرض ما يوازي قيمة عدة سندات موزعة على عدة أشهر قادمة. وطلب من العم خليل أن يبقى الأمر سراً بينهما، يسدد المبلغ ويأخذ السندات ثم يضعها في البريد لتصل إلى أبو سارة دون أن يعرف مصدرها..[/color]
[color=window****]وكانت الجامعة الفرنسية تتكفل بجميع احتياجات زياد الأساسية، ومع ذلك عرضت عليه العمل كمسؤول للمختبر التعليمي لديها للاستفادة من خبرته في عمله سابقاً، كما أنها تريد أن تمنحة فرصة أكبر لاستغلال إمكاناته التي ستساعده في مهنته المستقبلية كطبيب ناجح، كما توقع له جميع المدرسين. [/color]





21 – دينا وسارة

[color=window****]في تلك الأثناء كانت دينا تتقصى أخبار زياد، وحاولت أن تعاود الاتصال مرة أخرى بسارة، لكن سارة رفضت الحديث مرة ثانية معها، رغم أن دينا أجرت اتصالات متكررة بها على هاتفها، وكانت عندما ترى رقمها لا ترد على الهاتف.. [/color]
[color=window****]وفي يوم، وبعد اتصالات متكررة؛ طلبت سارة من أمِّها أن تبلغها بأن لا تتصل بها مرة ثانية.. لكن دينا لم تتوقف عن الاتصال.[/color]
[color=window****]وكانت دينا تقوم أيضاً بمراسلة زياد في فرنسا وتخبره عن مشاعرها نحوه، وكانت تحاول أن تكتشف حقيقة حبه لسارة، وكانت تقول له إنها هي التي تستحقه أكثر من سارة، لأنها لم تتخل عنه أبداً، وأنها بحثت عنه بعد مغادرته منزله، وذكرته بشرطها للدكتورة ميشلين، وكشفت له بأنها هي التي جعلت الدكتورة ميشلين تزوره في بيته عندما كان حابساً نفسه بعد وفاة والديه لكي تحاول إعادته الى الجامعة..[/color]
[color=window****]لم يعبأ زياد بكل كلام دينا، ورسائلها المتكررة، كان قلبه أسير حبه الوحيد.. [/color]
[color=window****]كانت دينا تريد أن تختبر مشاعره أكثر فأكثر.. لكن زياداً لم يكن يجيب على رسائلها..[/color]
[color=window****]ومرة اتصلت به؛ وما أن سمع صوتها حتى طلب منها بحزم أن تتوقف عن التحدث معه بلغة العواطف، قائلاً لها إنه يحترم مشاعرها النبيلة لكنه لا يرى فيها غير أخت وصديقة، كما أنه لا يسمح لنفسه أو لأحد أن يهين سارة عن قصد أو غير قصد، وأخبرها أنه لا يفكر بالزواج لا الآن ولا مستقبلاً، وأنه قرر البقاء في فرنسا للدراسة والتخصص في أمراض الأطفال الصدرية ليجمع ما بين تخصص أبيه وأمه، بعد أن ساعده الأطباء الذين زاملوا والديه في الدراسة للحصول على منحة دراسية كاملة من الجامعة بعد أن ظهر تفوقه وتميزه في الطب. [/color]
[color=window****]واستمر زياد يعمل ويدرس شهوراً متتالية، وكان يرسل إلى العم خليل ما يحصل عليه من أموال فيقوم بدوره بتسديد القرض دون أن يعلم أبو سارة من يدفع له قيمة السندات الشهرية، حتى تمكن زياد من تسديد قيمة معظم تلك السندات، ولم يتبق منها غير القليل.[/color]
[color=window****]وتلقى زياد في هذه الفترة اتصالاً من المحامي عصام وبشَّره بأن القاضي مقتنع تماماً بالأدلة التي قدمها له حيال قيام الوكيل السابق بسرقة أملاكه بالاحتيال، وأنَّه تم توقيف الوكيل بتهمة الاحتيال لتتم محاكمته بعد اكتمال جميع الاجراءات القانونية.[/color]
[color=window****]وكان لهذا الخبر انتشار قوي في الحي، وكان جميع السكان سعداء بذلك، وكلهم يباركون لبعضهم البعض كأنَّ الأمر يعني كل واحد فيهم، حتى إن أبو سارة طلب من العم خليل أن يوزع السكاكر على كل أطفال الحي.[/color]
[color=window****]وفي لحظة فرح؛ نطق العم خليل بالسر مخبراً أبو سارة بمصدر المال الذي كانت تُدفع منه السندات، لكن أبو سارة لم يقل عندها كلمة واحدة.. هز رأسه مبتسماً ابتسامة رضا.. فهذا الطبيب الصغير الشهم هو نفسه ابن الطبيب الشهم الذي يشهد الجميع بنبله..[/color]




22 - عودة زياد

[color=window****]وكانت سارة عادت إلى بيتها عقب استقرار زياد في فرنسا للدراسة فيها، وبعد أن علمت بسفره وأخباره من خلال اتصالات دينا وحديثها المتكرر مع أمها.. [/color]
[color=window****]وظلت دينا تعاود الاتصال مرة تلو الأخرى، وكانت تتحدث في كل مرة مع أم سارة، فأخذت مشاعر الود مع مرور الوقت تنمو بينهما..[/color]
[color=window****]وفي يوم من الأيام أخبرت دينا أم سارة أن زياداً سيعود قريباً ليؤدي مهمة طلبتها منه الجامعة الفرنسية، وأنه سيبقى في البلاد لأسابيع قليلة قبل أن يسافر من جديد، وأنها تتمنى أن يلتقي زياد بسارة، وأن على الأم أن تساعد لكي يتم هذا اللقاء..[/color]
[color=window****]كانت أم سارة تتمنى كثيراً حدوث هذا اللقاء.. فهي تعرف مدى ما تحمله سارة في قلبها من حب كبير لزياد، لكن سارة لو علمت بقدوم زياد فسوف ترفض اللقاء به.. كما أن زياداً قد يخشى أن يبادر إلى أي خطوة تزيد الشقاق بينهما..[/color]
[color=window****]فكرت دينا بحل ممكن.. [/color]
[color=window****]كان زياد في فترة عودته مكلفاً بالعمل في المستشفى المحلي كجزء من متطلبات الدراسة، وكانت خطة دينا أن تدعي أم سارة بالمرض فجأة، ما يستوجب نقلها إلى المستشفى فيما يكون زوجها في العمل، فتضطر سارة لمرافقة أمها.. في الوقت نفسه الذي يكون فيه زياد في عمله في المستشفى..[/color]
[color=window****]وعندما تأكدت دينا من أن الخطة محكمة الخيوط، طلبت من أم سارة أن تبدأ الادعاء بالمرض، ثم انتقلت برفقة ابنتها إلى غرفة الطوارئ في المستشفى حيث كان زياد يتابع حالة مريض، وفي لحظة دخول سارة مع أمها التقت عينا زياد وسارة.. وكانت مفاجأة كبيرة لكليهما..[/color]
[color=window****]إن المسافات المصطنعة غالباً ما تزول عند أقل جهد، لأنها مسافات غير حقيقية، من نسج الخيال.[/color]
[color=window****]لم يترك زياد أم سارة لوحدها لحظة واحدة على سرير الطوارىء، وقف مع الطبيب المتخصص طوال الوقت، وطلب منه أن يفحصها أكثر من مرة رغم أن الطبيب قال له إنه لا يوجد أي سبب مرضي ظاهر، ما استدعى بعض الفحوص المخبرية، وكان زياد في كل الوقت يتبادل النظرات مع سارة، قبل أن يتبين للجميع أن أم سارة بخير، وقرر الطبيب أن ما أصاب أم سارة عارض طبيعي لا ضرر منه، وقد يكون بسبب الأرهاق وقلة النوم..[/color]
[color=window****]مضت الدقائق كشلال دافق يغسل كل شوائب الماضي، تقاربت القلوب من جديد، استأذن زياد وخرج مع سارة وأمها يريد أن يوصلهما إلى بيتهما، لم يكن قد ذهب إلى الحي منذ عودته قبل أيام قليلة، كان ينام في المستشفى، لم يخبر أحداً بعودته، لكن دينا هي الوحيدة التي كانت تعلم ذلك..[/color]
[color=window****]اتصلت الأم بأبو سارة وأخبرته بما حدث معها، وأنها عائدة إلى البيت، فقال لها إنه سيذهب هو أيضاً ليكون في البيت بانتظارها ليطمئن عليها..[/color]





23 - ... وأخيراً

[color=window****]في البيت اجتمعت أسرة سارة مع زياد..[/color]
[color=window****]لم يكن زياد يتوقع أن يعود إلى هذا البيت من جديد.. نظر من نافذة بيت سارة.. تلك النافذة التي تطل مباشرة على شقته القديمة.. تأمل النافذة التي لم تفتح منذ زمن بعيد.. سيعيد فتحها بعد أن يستعيد أملاكه كما أخبره المحامي عصام..[/color]
[color=window****]لم يدع هذه اللحظات تمضي دون أن يحقق حلمه القديم.. خاصة وأن دراسته شارفت على الانتهاء.. [/color]
[color=window****]صوَّب زياد نظره باتجاه سارة.. كانت سارة تنتظر هذه النظرات.. لكنها أحنت رأسها خجلاً ودلالاً.. [/color]
[color=window****]كانت أم سارة تستعد لسماع كلام جديد يخرج من فم زياد.. فهو الآن لم يأت من أجل استئجار الشقة، فهو دفع جزءاً كبيراً من ثمنها، كما أنه من المؤكد أنه سوف يعيد المال الذي دفعه أبو سارة بعد أن يسترد أملاكه وأمواله من الوكيل.. فالقضية أصبحت شبه منتهية..[/color]
[color=window****]كانت السعادة تغمر منزل سارة، وكان صوت الفرح ينتشر في الحي بعودة زياد، والجميع يتكلم عن خبر سعيد سيزف بعد قليل..[/color]
[color=window****]دقائق قليلة وانطلقت الزغاريد من نافذة بيت سارة المشرعة على الحي..[/color]
[color=window****]العم خليل كان قد هيأ الأكواب ليوزع العصائر والسكاكر والحلويات على أبناء الحي والمارة.. فهو ينتظر هذه اللحظة منذ سنين..[/color]
[color=window****]الحي كله غمرته السعادة ذلك اليوم، وتصاعدت الزغاريد من كل النوافذ والبيوت.. حتى الرجال كانوا يزغردون.. لم يعرف الحي فرحاً مثل هذا الفرح منذ الحزن الكبير على وفاة والدي زياد.. أمَّا اليوم فمن حق الجميع أن يفرحوا.. أن يزغردوا.. أن يغنوا.. فكما ملأ أبوا زياد قلوب أهل الحي سعادة وأبدانهم صحة، ها هو زياد الابن الطبيب، يملأ القلوب من جديد بالسعادة والحبور.. [/color]

(النهاية)


 
 توقيع :



رد مع اقتباس
قديم 05-31-2012, 07:05 AM   #4
نائب الاداره


الصورة الرمزية معانى الورد
معانى الورد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 7
 تاريخ التسجيل :  Jul 2011
 أخر زيارة : 12-10-2021 (09:57 PM)
 المشاركات : 38,198 [ + ]
 التقييم :  10
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Female
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~










لوني المفضل : Fuchsia
افتراضي





 
 توقيع :


رد مع اقتباس
قديم 01-25-2014, 11:34 AM   #5
الاداره


الصورة الرمزية fade
fade غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2827
 تاريخ التسجيل :  Nov 2012
 أخر زيارة : 01-26-2018 (06:12 AM)
 المشاركات : 36,614 [ + ]
 التقييم :  10
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~


لوني المفضل : Brown
افتراضي



يسلموو عالطرح القيم والمميز
بارك الله فيك
وبنتظار جديدك القادم
تحياتى اليك
فااادى


 
 توقيع :


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


Rss  Rss 2.0  Html  Xml  Sitemap 


الساعة الآن 01:51 PM



Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010