عرض مشاركة واحدة
قديم 03-02-2016, 03:49 PM   #2
الاداره


fade غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2827
 تاريخ التسجيل :  Nov 2012
 أخر زيارة : 01-26-2018 (06:12 AM)
 المشاركات : 36,614 [ + ]
 التقييم :  10
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
 SMS ~


لوني المفضل : Brown
افتراضي




الفرع الثاني: المصطلحات المرادفة للقلب في القرآن الكريم:

إذا تتبعت الآيات بالقرآن باحثًا عن المفاهيم المعرفية وجدت قسمين: أدوات لها وظائف، كالحواسّ تذكر الأداة الجارحة ويتلوها وظيفتها، وقد تذكر الوظيفة دون أداتها؛ لأن الغاية والمراد الجانب العلمي والعملي لا الجانب المادّي الجسمي،كما قد تذكر الوظيفة بذكر الأداة فقط، دون ال، تصريح بعملها، كناية عن الوظيفة، وهذا يجليه السياق؛ وذلك لتضمنه لها، وبيان الغاية من الأداة، وهذا من أساليب اللغة المعروفة ومما تداوله المفسّرون، مثال ذلك آية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، فمعلوم قطعًا أنَّ الذكرى لا تكون إلا للإنسان الحي، والميت لا يخاطب أصلاً، ولا يخلو إنسان - حيًّا أو ميتًا - من قلب، فالمفهوم الثابت عند أهل العربية أنَّه لمن كان له (قلب يتذكَّر)؛ ويستجيب للخطاب، فإن لم يستفد من الخطاب فعدمه ووجوده سواء، فكينونة القلب الوجودية بكينونة غايته المعرفية، وهذا الأسلوب كثير في القرآن ولغة العرب بل وفي أعراف الناس عامة، ورأيناه مع نفْي السَّمع والبصر في القرآن، ومثله نسبت أفعال العبد إلى يديه مع أنَّها قد تكون بجوارح أخرى، فكانت النسب للأغلب، وكقولنا للذي لا يرحم: إنَّ قلبه ميت، ولا يفهم الغبي فضلاً عن الذكي أنَّ قلبه لا ينبض.
فالقلب في (ق: 37) قال أهل التفسير: إنَّ المراد منه العقل؛ أي: أحد وظائفه، وهذا في اللغة يسمَّى إطلاق الكل وإرادة الجزء منه، ويفهم بالسياق واللحاق، فالمراد "العقل" من القلب بالسياق، وهو الذكرى وفهم الوحي، فهذه لا تكون إلاَّ بالقوة العلمية بالقلب؛ أي: قوة العقل وهي التعقل.
نحاول جمع الأدوات التي نسب لها بعض وظائف القلب الإدراكية، مما يفهم من ذلك أنها مرادفة له لا شيء خارج عنه؛ وذاك لأن القرآن حصر أدوات تحصيل المعرفة في ثلاثة لا رابع لها، وهي القلب والأذن والعين.
أ- الفؤاد عند أهل اللغة:
هو الحُمّى وشدة الحرارة[18]، والفؤاد القلب، سمِّي بذلك لحرارته[19] وتوقُّده، وقيل: هو غشاء القلب، وقيل: الفؤاد هو باطن القلب، والقلب حبَّته وسويداه، والفؤاد الرَّقيق تسرع إمالته، والفؤاد الغليظ كالقلب القاسي لا ينفعل لشيء[20]،[21].
وإطلاقه كان على المعنوي لا على الجارحة، وبهذه الدلالة الخاصة ورد في القرآن مفردًا وجمعًا في "16" آية، ليس فيها ما يمكن أن يفهم أو يُحمل على معنى العضو المعروف، بل على اللطيفة الربَّانية؛ قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
وقال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
قال ابن كثير - بعد أن ذكر مِنَّة الله تعالى على عباده بإيجادهم -: ثمَّ بعد هذا يرزقهم تعالى السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسّون المرئيات، والأفئِدة وهي العقول التي مركزها القلب على الصَّحيح[22].
وقال ابن عاشور: الأفئدة: جمع الفؤاد، وأصله القلب، ويطلق كثيرًا على العقل وهو المراد هنا[23].
غير أنَّ "الفؤاد" ورد كمفهوم طاقة، أو ملكة، وبالأحرى وظيفة معرفية إدراكية، حيث نجده يقرن مع وظيفة السمع والبصر؛ أي: مع قوى الإدراك لا مع وسائلها.
فالقلب - مثلاً - حمل على أنَّه أداة للمعرفة؛ {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]؛ أي: آلة الفقه القلب وآلة البصر العين.
والفؤاد كلما ورد في سياق الامتنان بمنح الإنسان العلم وأدوات تحصيله وطرقه، كان على أنه ملكة أو وظيفة أو قوَّة إدراكية؛ كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
فقوى تحصيل المعرفة هي السمع والبصر والفؤاد، غير أنَّه لم ترد آية واحدة في سياق الامتنان جمعت فيها الحواس مع القلب، بل كان الجمع معه في مقام الذَّمّ دائمًا، إما بالإنكار أو التَّحقير أو إقْفال طرق العلم بالطبع أو الختم أو الغشاوة، فما علاقة الفؤاد بالقلب؟
عند أهل التفسير، حول آية (الإسراء: 36):
الفؤاد هو القلب، والسمع والبصر والفؤاد حواس لإدراك المعرفة[24].
يسأل الله السمع: هل كان ما سمعه معلومًا مقطوعًا به؟ والبصر هل كان ما رآه ظاهرًا بينًا؟
والفؤاد هل كان ما فكره وقضى به يقينًا لا شكَّ فيه، فالفؤاد هو الَّذي به الإنسان يشعر ويدرك[25].
المراد بالسمع آلته، وبالبصر آلته، وهذا معلوم في اللغة بل في استعمالات القرآن.
قال الراغب: السمع قوَّة في الأذن، ويعبر تارة بالسمع عن الأذن؛ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7][26]، والبصر يقال للجارحة الناظرة، وللقوة التي فيها[27].
نستنتج أنَّ المراد في آية (الإسراء: 36) آلات الإدراك؛ أي: الجوارح، لكن عبَّر بالقوى الموجودة في تلك الحواس؛ أي: بالإدراك الحسي بدلاً من الحاسَّة، وذاك نحسبه - والله أعلم - لقطع إشْكال أن تُخلق الأذُن والعين لكن دون قوَّة للإحساس، بأن يكون صاحبها أعمى أو أصمَّ؛ لذا ذكرت قوة الأذن وقوة العين الإدراكية، وهذا قطعًا يثبت الجارحة؛ لأن من سمع ضمنًا له أذن، لكن ليس كل صاحب أذن يسمع، ومثله في الأصم.
فالمراد في آية الإسراء: الحواس، غير أنه عُبِّر بقواها لنفي تعطُّلها خِلْقة عن أداء وظيفتها، فلزم من ذلك أن الفؤاد هو قوة القلب الإدراكية.
باستقراء آيات الفؤاد في القرآن ومقارنتها مع آيات القلب نلاحظ ما يأتي:
1- اختصاص الفؤاد بالرؤية؛ {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، وفي تفسيرها على قولين[28]:
أ- من شدَّد "كذَّب" قال: ما أنكر الفؤاد ما رأته العين.
ب- من خفَّف قال: أراد: ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير، بل صدَقه الفؤاد الرؤية، فالفؤاد محلّ لرؤية الحق، أمَّا القلب فخصَّ بالبصيرة؛ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]، {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، ولا يقال: أعمى إلا لمن كان ذا بصر وفقده، فدلَّ على أنَّ القلوب المخالفة لتلك - الموصوفة في الآية - مبصرة وذات بصيرة.
2- اختصاص الفؤاد بالكذب، بينما وصف القلْب بالزيغ والإنكار والظَّنّ والعمى والنفاق.
3- وصف الفؤاد بالفراغ والهواء: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص: 10]؛ وفي معنى الفراغ أقوال، غير أنَّ كلَّها تدل على أنَّ سبب الفراغ الخوف، قال الرازي: القلب الفارغ من كلّ همّ إلاَّ من موسى[29]؛ أي: فرغ من أمور الدنيا كلها لانشغالها بولدها، وقال الزَّمخشري: فارغًا من العقل؛ أي: طار من فرط الجزع والخوف[30].
وقال تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43].
يقال: هوى صدره يهوي إذا خلا، والهواء: الجبان لأنه لا قلب له[31]، فأفئدتهم فارغة من شدة الخوف.
قال السعدي: فارغة من قلوبهم، قد صعدت على حناجرهم، لكنَّها مملوءة من كلّ همّ وغمّ وحزن وقلق[32].
أمَّا القلب فقد وصف بالخوف والخشية والوجَل والوجف والرعب.
4- وصف الفؤاد بالهوى والصغْو، وكلاهما بمعنى الميل نحو أمرٍ ما؛ قال تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]؛ أي: تنزع إليهم، يقال: هوى نحوه إذا مال[33].
وفي الصغْو: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام: 113]، وهنا اشترك مع القلب في هذا، {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، فالصغْو: الميل، يقال: صغى إليه يصغي: إذا مال[34].
أمَّا القلب فاختصَّ بالحمية والإنابة والزيغ.
5- وصف الفؤاد بالتثبُّت: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
قال ابن عباس: نثبِّت: نسكن، وقال الضحَّاك[35]: نشدّ، وقال ابن جريج[36]: نقوّي[37].
أمَّا القلب فوصف بالاطمئنان والسكينة والإخبات والخشوع.
6- وصف الفؤاد والقلب معًا بالتقلُّب: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]؛ أي: نصرفها من رأي لآخر من شدَّة حيرتها، وذاك عقاب لهم بالحيلولة دونهم ودون الإيمان وبلوغ اليقين[38]، فالحيرة هنا نتيجة الشك.
أمَّا التقلب للقلوب: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37]، من شدة الهول والخوف المزعج للقلوب[39].
فرغم أنَّ كليهما وصف بالتقْلب غير أنَّ تقلّب الفؤاد كان تقلّبًا لقوى الإدراك، أما القلب فكان لقوى الإرادة؛ أي: إن الفؤاد تقلبه معرفي، أمَّا القلب فوجداني ومشاعري.
يظهر من كل ما طرحنا من خصائص للفؤاد جليًّا أنَّه الجزء الذي تتعلَّق به القوى الإدراكية من القلب، حيثما ذكرت القوى الإدراكية في مقام المِنَّة والتذكير بنعم الله كان الفؤاد والسمع والبصر.
وإذا ختم فالختْم على القلب، وهذا يشمل الفؤاد؛ أي: قوَّة الإدراك فيه، ويشمل القُوى الأخرى بالقلب المتعلِّقة بتحصيل الخير، كما أنَّ الكلَّ وهو القلب ذكر حال العقاب دون ذكر الجزء منْه وهو الفؤاد؛ لأنَّ الفؤاد ليس وحْده المكتسِب لتلك الخطايا الموجبة للختم والطبع، بل حتى لما عوقب الفؤاد بالتقلب كان لكفر القلب بما اتَّضح للفؤاد، وعقد القلب الإرادة على العصيان والنفاق والضلال، فالقلب هو الموصوف بالكسب والتعمد والقصد والإرادة، والعقاب يكون على الفعل وهو الإرادة، واليقين وهو معيار معرفي كان من خصائص الفؤاد، فالوحي ذكر الله تعالى أنه ينزل على القلب، أما ثباته والتيقن منه فكان من خصال الفؤاد.
وآكد حجّية من ذلك كلّه اقتران قوى الإدراك مع بعضها، وآلاتها مع بعضها، فاقترن القلب مع العين والأذن؛ {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
حتَّى إذا ذكر السَّمع والبصر بدلاً من الأذُن والعين، فكل المفسرين على أنَّ المراد الجارحة لا القوَّة.
أمَّا إذا ذكر الفؤاد فاقترانه مع قوَّة الأذن السمعية وقوَّة العين البصرية، وإن فسرها الكثير على أنَّ المراد الجارحة من السَّمع والبصر، غير أنَّ ذكر القوَّة المدركة بدلاً من آلتها في القرآن ليس عبثًا، وإنَّما المراد منها بيان الغاية من خلق الآلة وإبراز وظيفتها، وأنَّه دونها لا قيمة لها، بل هي في حكم العدم؛ لذا كلَّما ذمَّ الله المعطلين لقواهم الإدراكية عن بلوغ الهدى ذكر الجوارح، وكلَّما امتن على المؤمنين بما منحهم من الهداية وأسباب تحصيلها ذكَر القوى المدركة في الجوارح.
فالفؤاد هو الجانب المدرك في القلب، وهو محلّ الفهم والتفكّر والرَّأي؛ لأنه وصف بالتقلب؛ أي: الحيرة والشك وعدم اليقين، والانتقال من فكرة لأخرى، ومن رأي لمثله.
وهذا رأي بعض أهل التفسير: "ويسأل الفؤاد هل كان ما فكره وقضى به يقينًا لا شك فيه، فالفؤاد هو الذي به الإنسان يشعُر ويدرك"[40].
كما أنَّ المسؤولية لا تلقى على المكلف إلا وشرط قيام التكليف عليه قائم، مع تهيؤه لما كلف به؛ كيما تنتفي المشقَّة عنه؛ لئلا تكون له حجَّة على المُكَلِّف، وهو الله تعالى هنا، وأهمّ الشروط القدرة على إدْراك التكليف، وعلى فعله، أمَّا الفعل فهو من اختِصاص أعضاء الجسم المجنَّدة للقلب كافَّة، وأمَّا الإدراك فكان للسَّمع والبصر والفؤاد هنا، فإن علمنا قطعًا أنَّ السَّمع قوَّة محسَّة للأصوات، والبصر قوَّة محسَّة للمرئي، وهذه لها علاقة بما هو خارج النَّفس المدْركة؛ أي: عالم خارج ذهن الإنسان[41]، فالفؤاد لزومًا هو الجانب المقابل للجهة الخارجية، والسمع والبصر وسائله للاتصال بما هو خارج عنه.
ينتج من ذلك أن الفؤاد هو المدرك لما خرج عنه، وهو المفكر والمتفهم والمسيطر على الجانب المعرفي، وهو أحد طرفي القدرة التي سيسأل عنها، فشرط قيام حجة الخطاب فهمه، والعقاب على من لم يستجب بعدها لمن كانت له القدرة على الفعل، وبين الإدراك والفعل هنالك الإرادة ومحلها القلب، وهو مخير فيها محاسب عليها.
فالإدراك قواه ثلاثة: السمع والبصر والفؤاد، وكلّها من شأن النفس المدركة بالقلب، وهذا ما لم نجِد حوله خلافًا يقوم معه؛ لذا قال الغزالي: اعلم أنَّ محلَّ العلم هو القلب[42].
وقال ابن القيم: "رأى" لما يُعلم بالقلب ولا يُرى بالعين، ولكنَّهم خصُّوه بما يراه القلب بعد فكر وتأمّل، وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيه الأدلة[43].
قال صاحب "دليل الميزان": "التعقل والسَّمع في الحقيقة من شأن القلْب؛ أي: النَّفس المدركة[44].
بل فسَّر الزمخشري فراغ فؤاد أم موسى بأنه فراغ من العقل؛ أي: إن العقل محلّه في الفؤاد من القلب.
والرازي نقل أنَّ أحد الأقوال: أنَّه فارغ ممَّا أوحي إليه، والفراغ هنا يقابله الثبات؛ لذا قال تعالى بعدها: {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10]؛ كيما تصبر وتسكن.
كما فسَّر ابن كثير[45] أنَّ الفراغ كان من كل شيء من أمور الدنيا إلاَّ من موسى، ونسب هذا القول لابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحَّاك والحسن البصري وقتادة.
فخلوّ الفؤاد هنا كان من كلّ المعلومات، والرَّبط على القلب كان لئلاَّ تبدي بموسى أنَّه ولدها لا لِمَلأ الفراغ؛ لأنَّ صبرها لا ينفي حزنها واستمرار قلقها، ما دامت لم تتحصل عليه، ويرجع لها معاينة.
نفهم من هذا أنَّ القوى المدركة بالفؤاد، وقوة السمع المدركة، وقوة البصر المدركة بالقلب، فالأذن (السمع) ناقلة للأصوات، والعين (البصر) للصور، والفؤاد هو المدرك لها والفاهم والمفكر.
وهنا نوضّح أنَّ السمع قوَّتان: قوة استقبال للأصوات؛ أي: القوة الحسية وهي من خصائص الأذن، وقوَّة إدراك المسموع، والإدراك هنا عبارة عن كمال يحصل به مزيد كشف على ما يحصل في النفس من الشيء المعلوم؛ أي: إنَّه كمال زائد على كل ما حصل من الحواس واحدة واحدة.
فأوَّل مراتب العلم هو الشعور، وهو إدراك من غير إثبات، فكأنه إدراك متزلزل، قبله يكون الإحساس وهو إدراك الشيء مكتنفًا بالعوارض الغريبة واللواحق المادّيَّة، مع حضور المادَّة ونسبة خاصَّة بينهما وبين المدرك.
والإحساس للحواسّ الظَّاهرة، أمَّا الإدراك فللقلْب أو العقل أو اللَّطيفة الروحانية النفسيَّة، وقد صرَّح المحقِّقون بأنَّ القوى الجسمانيَّة آلات للإحساس، والمدرك هو النَّفس، ففعل القلب المعرفي الإدراكي يبتدئ من حيث ينتهي الحسّ؛ لذا قيل: "بداية العقول نهاية المحسوسات".
بهذا اتَّضح أنَّ نقل الصوت والصورة من الخارج إلى النفس المدركة لا يستلزم الإدراك، فليس كل مرئي أو مسموع مدرَكًا، وذلك لعوارض كثيرة، غير أنَّ كلَّ مدرك من الخارج لا بدَّ أن يكون محسوسًا، وسنبين ذلك أكثر في علاقة الحس بالعقل معرفيًّا.
\نخلص إلى أن فهم المسموع أو المرئي بالقلب، والخطاب الإلهي موجه لفهمه، ومعجزاته المخلوقة جعلت مبصرة؛ ليفهم وجه الاستدلال منها؛ لذا كان كل إثبات أو مدح للسمع أو البصر إنَّما هو لإدراك الغاية من المسموع والمبصر، وإلا صارت هذه القوى لا تتجاوز درجة الإحساس والشعور وهذا نصيب البهائم، فهي ذات سمع وبصر وقلب، لكن لم تمنح الفؤاد، وهو من القلب.
فتأمل تشبيه الله تعالى للكفَّار بالأنعام بأنَّ لكل واحد منهم قلبًا وأذنًا وعينًا، غير أنَّها معطَّلة عن الفقه والسَّمع والبصر، ولن يقول أحد إنَّ البهائم كلَّها لا تسمع ولا تبصر ولا تشعُر بما حولها من غذائها، ومسار حركتها، وبمن حولها من جنسِها، بل وبمن هو خطر عليها ومَن لا يهدِّدها، بمعرفة أعدائها وما هو من جنسها، وأنَّها لا تشعر بالفزع والخوف، بل هي تملك حتَّى الذكاء والذاكرة، وأقل من ذاك تشعر بوجود ذاتها وجسمِها.
لكن المراد نفْي الإدراك الزَّائد عن درجة الإحساس والشعور، وهذا منتفٍ؛ لأنه لا فؤاد لها؛ أي: لا تملك قوى الإدراك والتفكير والتأمل والتحليل، وليست مهيَّأة للعلوم؛ لعدم وجود المحل الذي يستوعب ذلك كله وهو الفؤاد.
فالله أثبت للبهائم قلوبًا لكن لم يثبت لها فؤادًا في القرآن الكريم؛ لأنَّ الفؤاد مناط تكليف ومسؤوليَّة؛ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]، والتكليف مرفوع عن البهائم؛ فلا مسؤولية عليها، فلا حاجة لها بالفؤاد مناط التكليف.
ومعلوم بإجماع العلماء والعقلاء أنَّ مناط التكليف والمحاسبة هو العقل؛ أي: كمال الإدراك والفهم بعد البلوغ بإدراك الخير والشرّ والتمييز بينهما، فكان لزامًا أنَّ العقل مستقرُّه بالفؤاد في القلب، وإن كان التعقّل والتفقّه نسب للقلب دون الفؤاد في القرآن الكريم؛ حيث لم ينسب التعقل للفؤاد بصريح العبارة، لكن يفهم من آية تقليب الأفئدة، والمسؤولية الملقاة على الفؤاد، وتثبيت اليقين به، وفراغه وامتلائه بالمعلومات من وحي ومعارف.
وقد يكون تخصيص العقل بالقلب، والإدراك وآليات التفكير بالفؤاد دليلَ اشتمال العقل -كفعل قلبي - لقوى الإدراك من سمع وبصر وفؤاد - والله أعلم.
فالعقل هو الحاكم والقاضي والمتحكم وشاهد على القوى الإدراكية، فهو الفاصل بالفعل أو الترك، وهذا له علاقة بالإرادة وهي ليستْ بالفؤاد.
ننبِّه إلى مسألة العلاقة بين الفؤاد والقلب: قيل في العلاقة: إنَّ الفؤاد غشاء القلب؛ أي: حاوٍ له، وقيل: هو باطن القلْب؛ أي: محتواه، وقيل: هو حبَّة به؛ أي: من محتوياته[46].
فهل الفؤاد هو القلب؟ أم جزء منه؟ أم القلب جزء منه؟
من استِقْراء آي القرآن وكلام العلماء حولهما، يظهر أنَّ الفؤاد جزءٌ من القلب؛ لأسباب هي:
1- وصف الفؤاد بقوى إدراكية وفقط، بينما وصف القلب بذلك وبقوى إرادية من طباع وشهوات ومشاعر.
2- أن القلب أُثبت في القرآن للبهائم، وأجمع النَّاس على أنَّها لا تعقل؛ فدلَّ على أنَّها لا تملك قوى العقل ولا محلّه وهو الفؤاد.
3- اقتران لفظ القلْب دائمًا بآلات الإحساس الجارحة: الأذن والعين، بينما يقترن الفؤاد بقواها الحسية والإدراكية: السمع والبصر.
4- تقليب الفؤاد – أي: آرائه - كان جزاء عن عدم الإيمان، والإيمان نسب إلى القلب، وهو يشمل التَّصديق والإقرار والطَّاعة بعد الفهم ثمَّ العمل، وهذا كلّه ليس للفؤاد منْه إلاَّ الفهم وآلياته.
5- التَّمكين من العلم يكون بالسَّمع والبصر والفؤاد، لكن إذا اجتمع ذلك مع الجحود كان كمال القوة العلمية مع نقص القوة الإرادية الإيمانية، وكلاهما جزء من أعمال القلب.
6- الختم والطبع والقفل والوقر والأكنَّة، كلها لصور العقاب الذي وقع على قوى الأعضاء الجارحة، بدليل أن المعاقب أدوات المعرفة فيه سليمة، والمسؤولية لم تسقط عنه حتَّى بعد العقاب، لزم حتمًا أنَّ آليات الإدراك وقواها تعمل، فما الذي طبع وأقفل إذًا؟ ما طبع جزء من كلّ؛ أي: إنَّه هو والقوى الأصلية (الفؤاد، السمع، البصر) محتوى ضمن كلّ؛ هو القلب، ولما انتفت الغاية الأخروية وهي علَّة خلقه، نُفِيَت عنه الغاية البشرية وهي وسيلة خلافته، وصارت له غاية بهيميَّة وهي وسيلة بقائه.
7- البهائم ذات سمع وبصر وقلب، وذا نصيبها، لكن لم تمنح الفؤاد، وهو من القلب.
فتأمَّلْ تشبيه الله تعالى للكفَّار بالأنعام، بأنَّ لكل واحد منها قلبًا وأذنًا وعينًا، غير أنَّها معطَّلة عن الفقه والسَّمع والبصر، فقلب البهيمة ينقُصه فؤاد، وقلب الكافِر يلزمه إعماله ليكتمل، والنَّاقص جزء من كل.


 
 توقيع :
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس