السخرية منظومة شاملة ذات بعد فلسفي نفسي

السخرية .. منظومة شاملة ذات بعد فلسفي نفسي



لم تعد السخرية كلمة تعبّر عن خفة الظل أو التندر أو القدرة على الإضحاك ؛ فالسخرية أصبحت في عصرنا الحاضر منظومة شاملة وربما لها بعد فلسفي نفسي يقهر قهرنا بالبسمة والنكتة والتورية الذكية الموجعة لدرجة القهقهة الدامعة .
لقد انبثق عن كلمة السخرية مصطلحا الكوميديا – والكوميديا السوداء في المسرح والقصة والشعر والرواية والسينما ، وفي الفن التشكيلي مصطلح الكاريكاتير ، وفي التلفزيون برامج التوك شو ، وغيرها من الاسكتشات التمثيلية القصيرة جداً .
السخرية موجودة في كل المجتمعات والأمم وتظهر جلياً في الدارج الشعبي كالنكت الطيارة على الأوضاع السياسية السائدة ، أو على الأشخاص الذين لاحول ولاقوة لهم أي الأقل حظاً في المعرفة والرفاهية ، والمتابع لأكثر الأمثال الشعبية شهرة وتداولاً يجد خلف تلك الأمثال حكايات ضاحكة أو مفارقة سوداكوميدية .
واليوم تفتش نسبة كبيرة من الناس عمّا يبهج قلبها ويزيح عن كاهلها هذا الضغط اليومي الهائل من كلل الحياة ، ومن جهد العمل ، ومن القلق على الحاضر والمستقبل معاً... وحتى الأشخاص الجديون المهتمون بالقضايا السياسية الكبرى لا يأنفون من التعليقات الكيدية ذات الطابع الكوميدي على خصومهم .
السخرية حاضرة بقوة في الأهازيج الشعبية والأغنيات في الأعراس وغيرها، وموجودة خلف جدران البيوت في التعليقات الشفوية بين الأسرة الواحدة ؛ في توزيع الصفات المختلفة على الأقارب وهكذا .
الفنون والسخرية
منذ العصور القديمة وجدت بعض الرسومات الساخرة على البرديات لدى قدماء المصريين . وفيما بعد وجدنا عبر التاريخ أن الملوك وظفت في مجالسها المهرجين أو جلساء الأنس أو الشعراء أصحاب البديهة الحاضرة في الهجاء .
أما المسرح الكوميدي فقد تأخرت عروضه مقارنة بالمسرح التراجيدي ؛ لأن الكوميديا كعرض تحتاج إلى انفتاح أكبر من الحكام ، أي إلى حيّز معقول من الحرية . فالسخرية لايحتملها المستبدون ، وهناك العديد من الأعمال الفنية التي عرضت ومن ثم توقف عرضها لعدم قدرة الحاكم على احتمالها .
وقد لجأ العديد من الفنانين إلى التجوال وتقديم عروضهم في البلدات البعيدة وأحياناً على أطراف الشوارع .
في بلادنا العربية ظهر مسرح الظل في القرن التاسع عشر وكان أصحابه يجوبون البلدات والمدن وهم يحملون هذا الصندوق العجيب ، يقدمون من خلاله قصص عنترة والسيرة الهلالية، وفيما بعد أصبحوا يقدمون قصصاً عن استبداد الحاكم العثماني وولاته بطابع كوميدي ، ثم انتشرت ظاهرة المنولوجست الناقد للأوضاع والعادات الاجتماعية غير المرغوبة ، واتسعت تلك الظاهرة أثناء الاحتلال الغربي في مصر وسوريا وفلسطين ، وكتبت العديد من الاسكتشات التي تناهض الاحتلال وأعوانه في تلك الفترة ، حتى ظهر الفنان سيد درويش الذي قدم العديد من الطقاطيق الساخرة المغلفة بالكوميديا السوداء وما زالت تردد على الألسنة إلى يومنا هذا: عشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي.
في فترة الثلاثينيات والأربعينيات ازدهرت السينما المصرية بالوجوه الكوميدية ؛ شكوكو واسماعيل ياسين وماري منيب ...وحتى الفنانون النجوم كانوا يقدمون أنفسهم كأبطال خفيفي الدم كليلى مراد وأنور وجدي ومحمد فوزي ونعيمة عاكف . لكن هناك ظاهرة أخرى لافتة ؛ حين يتعرض المجتمع لأزمات اقتصادية حادة كالأزمة التي حدثت أثناء الحرب العالمية الثانية ؛ تزداد الأفلام الكوميدية التجارية أي التي تفتش عن الإضحاك بهدف الإضحاك دون العمل على تقديم عمل فني متكامل .

ومع ظهور أنظمة جديدة في الخمسينيات والستينيات تحوّل الفن الكوميدي إلى فن يحمل في بعض وجوهه الهم السياسي العام والقومي ، وتوسعت التوريات والقفشات لتلمس كل ما يتصل بالسياسي وتطور هذا النمط في السبعينيات والثمانينيات على أيدي عادل إمام ومحمد صبحي . ويوسف شاهين قدم الكثير من اللذعات السياسية في العديد من أفلامه . وفي الأردن ظهرت مجموعة من الوجوه الكوميدية قدمت الدراما التلفزيونية كحارة أبو عواد ؛ نبيل المشيني وربيع شهاب وفيما بعد قدم معظمهم أعمالاً مسرحية كوميدية انتقادية .

نجم وناجي العلي
منذ منتصف السبعينيات أصبحت رسومات ناجي العلي الكاريكاتورية زاداً ونوراً لكل متابع وحتى الأشخاص الذين لايجيدون القراءة يتابعونها مع أقربائهم أو معارفهم ، والجميع من الكويت إلى بيروت وعبرها في الدول العربية ينتظرون بشغف ما سيكون رأي حنظلة ناجي بالحدث عبر ريشته وتعليقاته على لسان فاطمة الفلسطينية المستوحاة من خياله ، وعلى الجانب الآخر كان الناس تواقين لسماع آخر القصائد التي تصلهم من مصر عبر صوت الشيخ إمام وشعر أحمد فؤاد نجم .
كانت أشعار نجم تحمل تلك المفارقة الحارقة ، تلك السخرية الأخاذة ، وأيضاً تلك البساطة وذلك الوضوح ، كانت باختصار حاملة شعلة الجرأة كرسومات ناجي العلي ، لقد تحوّل هذا الثنائي في ذلك الزمان إلى ظاهرة شعبية نابضة بالكوميديا السوداء ، لكنها بصدقها ومنجزها وهبت الأمل لكثيرين بفتحها آفاق المشاركة مع الجموع ؛ المشاركة بالهم العام والوجع عليه ، والضحك للتخفف من وطأة صانعيه .
ومن قصائد نجم المؤاتية لكل زمان ؛ عن المتسلق والملوّن مع كل عصر :
حلا ولا يا حلا ولا
يا خسارة يا حول الله
ده الثوري النوري الكلمنجي
هلاب الدين الشفطنجي
قاعد في الصف الأكلنجي
شكلاته وكارميلا
يتمركس بعض الأيام
يتمسلم بعض الأيام
ويصاحب كل الحكّام
وبستطعشر مله
الكتابة الصحفية الساخرة

في كتاب « الساخرون « يرى نزيه أبو نضال ( أن الكتابة الساخرة قطع نادر في العالم كله ، وحتى في مصر ثمة عدد محدود من الكتاب الساخرين مثل المازني وبيرم التونسي ونجم ومحمود السعدني وأحمد بهجت ، فلماذا يبدو الأردن كثير الساخرين عكس هذه القاعدة لاحظنا خلال متابعتنا للكتابة الساخرة في الأردن توزعها على ثلاثة اتجاهات أساسية ؛ الأدب الساخر الإبداعي مؤسسه الرائد محمد طمليه ويشاركه ابراهيم جابر وأحمد الزعبي . والاتجاه الثاني؛ الكتابة الساخرة الشعبية وأميرها يوسف غيشان ومعه كامل نصيرات . أما الاتجاه الثالث الإبداع اللغوي الساخر ؛ فيتزعمه أحمد أبوخليل ويشاركه أحمد الزعبي . وهناك من يكتب المقالة الساخرة بدون تنميط معين مثل موسى حوامدة ورسمي أبو علي ومن الكاتبات المتميزات بالسخرية هند خليفات ، ومن المواظبين يومياً عبد الهادي راجي المجالي ورسام الكاريكاتير عماد حجاج .
اما الكاتب الساخر في بلادنا فهو يضحك ولا يلهو أو يسهو ، ويعيش على حواف الخطر ولسانه يلهج بالسخرية مع محمد الماغوط : « الآن إذا كتبت أموت من الخوف ، وإذا لم أكتب أموت من الجوع .»

 

طرح جميل

دام التألق ... ودام عطاء نبضك
كل الشكر لهذا الإبداع,والتميز
لك مني كل التقدير ...!!
وبآنتظار روائع جديدك بكل شوق...!
ودي وعبق وردي

شكرا على هذاالطرح الرائع
كروعتك سلمت الأيادى
ودى

موضوع جميل اخترته لنا

وطرح راقي جداً

راقني انتقائك الماسي

سلمت يداك وبانتظار

جديدك القادم بشوق

لكَ احترامي وتقديري

تحياتى