هنا القاهرة .. د . عائض القرني أرسل لكم هذه المقالة مع التحية من القاهرة وقد تلوت وأنا أدخل مصر قول البارئ عز وجل : « ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ». يا مصر كل حديث كنت أحفظه ـ نسيته عند أهل التل والدارِ جرت دموعى على أعتاب داركمو ـ يا مصر كل الهوى فى نيلك الجارى. وقد دُعيتُ إلى جلسة أدبية فحييت مصر بهذه المقامة: يا مصر، أنتِ كوكبة العصر، وكتيبة النصر، وإيوان القصر، أنت أم الحضارة ورائدة المهارة، ومنطلق الجدارة وبيت الإمارة ، ومقر السفارة ومهبط الوزارة . من أين نبدأ يا مصر الكلام ..؟ وكيف نلقى عليكِ السلام ..؟ قبل وقفة الإحترام ، لأن فى عى الأيام ، والأعلام ، والأقلام ، والأعوام. يا مصر أنتِ صاحبة القبول والجاه ، كم من قلب فيك شجاه ما شجاه ، ونحن جئنا ( ببضاعة مزجاة ) ؟ سارت إلى مصر أحلامى وأشواقى ـ وهلّ دمعى فصرت الشارب الساقى وفى ضلوعى أحاديث مرتلة – ومصر غاية آمالى وترياقى. يا ركب المحبين أينما حللتم وأرتحلتم ، وذهبتم وأقبلتم إهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم . يا أرض العز، يا بلاد العِلم والقطن والبز . سلام عليك يا أرض النيل ، ويا أم الجيل ، الحب لك أرض والجمال سقف ، والمجد لك وقف , ويا داخل مصر منك ألف ، ما أحسن الجفن والجيد والكف ألتقى الطيب والكافور فى مصر، لما ألتقى أبو الطيب وكافور فى القصر قبل أن يدخل جوهر الصقلى مصر كان عبدا مملوكا ، فلما دخلها صار يحكم ملوكا. أرض إذا ما جئتها متقلبا ـ فى محنة ردتك شهما سيدا وإذا دهاك الهم قبل دخولها ـ فدخلتها صافحت سعدا سرمدا. قل للأخيار المكرمين الوافدين إليها مغرمين ، والقادمين عليها مسلمين : « أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين ». في مصر تعانقت القلوب ، وتصافح المحب والمحبوب ، وألتقى يوسف بيعقوب ، فصفق الدهر ليوسف منشدا، وغنى الزمان له مغردا ، " وخروا له سجدا " فى مصر ترعرع الشعر، وسال القلم البليغ بالسحر فكأن الفضاء لكتاب مصر صفحة بيضاء ، يكتب فيه كل ما يشاء فصارت العقول فى ذهول ، من روعة المنقول والمعقول ، وأذعنت القلوب فى قبول ، ترحب بالشاعر المصقع ، والقلم المبدع ، والرأى المقنع. دخلنا مصر والأشواق تتلى ـ وكل الأرض أنسام وطلُّ جمال يسلب الألباب حتى ـ كأن القتل فيها يُستحلُّ. فى مصر القافية السائرة ، والجملة الساحرة ، والمقالة الآسرة ، والفكرة العاطرة ، عالم من الجنود ، والبنود، والوفود. دنيا للقادة ، والسادة أهل الإفادة ، والإجادة ، والرفادة ، ديوان للكتاب، والحساب، والأصحاب، والأحباب. محراب للعباد ، والزهاد ، والأمجاد ، والرواد ، علماء ، وحكماء، وكرماء، وحلماء، وشعراء، وأدباء، وأطباء، وخطباء، ونجباء، وأذكياء، وأولياء، وأصفياء، وأوفياء. هنا الدهر يكتب من ذكرياته فنونا ، هنا التاريخ يبث من صدره شجونا، هنا الجمال يسكب من إنائه فتونا ، هنا خطى الزمان تتسارع ، والحضارات تتصارع ، والأهرام تقص علينا خبر الأيام ، وأحاديث الأقوام ، وما فعلته الأعوام: أين الذى الهَرَمان من بنيانه ؟ ـ ما يومه ما ذِكْره ما المصرعُ ؟ تتخلف الآثار عن أصحابها يوما ويدركها الفناء فتتبعُ . هنا سحق الطغيان، ومزق جنود الشيطان ، ودمر فرعون وهامان ، وأحرقت وثيقة الزور والبهتان ، وأرتفعت ملة الرحمن. هنا عمرو بن العاص ، رحب به العوام والخواص ، وفر الظلم في قدومه وغاص ، هنا تكتب الدموع على الخدود رسائل الأموات إلى الأحياء، وخطاب الأرض المفتوح إلى السماء، وهنا تلتقى الظلماء والضياء ، والظمأ والماء ، والصفاء والوفاء ، ويتعانق الضحك والبكاء ، والفراق واللقاء ، لتصبح الحياة فى مصر مهرجانا لآلاف الصور والمشاهد ، والذكريات مساجد ، ومعابد ، ومعاهد، وجامعات ، وكليات ، وشركات ، وأمسيات ، ومحاضرات ، وندوات ، ولقاءات ، ومحاورات ، ومعاهدات. دار هى الأرض إلا أنها بلد ـ فيها الزمان وفيها الشمس والقمرُ تجمّع الدهر فى أرجائها جذلا ـ والغيث داعبها والنهر والشجرُ. صباح الخير يا أرض الكنانة ، وناصرة الديانة ، وحاملة التاريخ بأمانة ، وحافظة عهد الإسلام فى صيانة ، وراعية الجمال فى رزانة. أدب خلاب ، وجمال سلاب ، وسحر جذاب ، وذكاء وثاب ، وظل مستطاب ، وأمان عذاب ، نهر يتدفق، وحسن يترفق، ودموع تترقرق ، وزهور تتفتق، وأكمام تتشقق، ومقاصد تتحقق وجد الإسلام فيكم يا أهل مصر أعياده ، كنتم يوم الفتوح أجناده ، وكنتم مدده عام الرمادة ، وأحرقتم العدوان الثلاثى وأسياده ، وحطمتم خط بارليف وعتاده ، وكنتم يوم العبور آساده وقواده. فتفضلوا الشكر والإشادة ، وخذوا من القلب حبه ووداده: ثمن المجد دم جُدْنا به ـ فاسألوا كيف دفعنا الثمنا. منكم أمير الشعراء، وكبير البلغاء ، وشيخ الفصحاء، وسيد الخطباء ، وأستاذ النجباء ، وأكبر الأطباء. يسلك العقل فى مصر سبيله ، ويحفظ الفؤاد من مصر نيله ، وتعيد الذاكرة فى مصر قصة ألف ليلة وليلة. في مصر لطف الهواء ، وطيب الغذاء ، ونفع الدواء ، وصفاء الماء. النيل مائى وفى أرض الكنانة ما ـ يشجى من الحب والأشواق تزدانُ فيها الحضارة والأمجاد ماثلة ـ علم وفهم وإسلام وإيمانُ. سلام على مصر فى الآخرين ، لأنها كانت خزانة المسلمين ، ومدد المجاهدين ، وسلة الخبز للجائعين ، ومقبرة المستعمرين ، أهلك الله أعداءها ثم قال : « فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ». بوركتِ يا أرض السنابل ، ويا روض الجداول ، ويا بلاد الخمائل، لكِ فى قلوبنا من الحب رسائل ، ومن الود مسائل: من لقلب حل جرعاء الحمى ـ ضاع منى هل له ردّ علىّ ؟ فاسألوا سكان مصر إنه ـ حل فيهم فليعد طوعا إلىّ. لله أنتِ يا مصر، بَنُوك أهل سعة فى الحفظ ، وفصاحة فى اللفظ ، ومنهم سادات القراء، وأئمة الفقهاء. إذا قرأ منهم القارئ كلام البارئ، تكاد تبكى السوارى، وينسكب مع ندى صوته الدمع الجارى. وإذا خطب فيهم الخطيب، بذاك الكلام العجيب ، سمعت البكاء والنحيب. مصر بلد الحديث المحبّر، والحرف المسطر، والروض المعطر. سقاها الله الغيث المدرار، وحماها من الأخطار، وصانها من لوثة الأشرار.