وفي يوم الثلاثاء, الحادي عشر من ربيع الأول سنة 1214 هـ,
يقول الجبرتي عن احتفال ذلك اليوم:
(عمل مولد النبي بالأزبكية, ودعا الشيخ خليل البكري ساري
عسكر الكبير, مع جماعة من أعيانهم وتعشوا عنده,
وضربوا ببركة الأزبكية مدافع وعملوا حراقة وسواريخ ونادوا في ذلك
اليوم بالزينة وفتح الأسواق والدكاكين ليلاً وإسراج القناديل
وإصطناع مهرجان).
ثم طالب بونابرت من الحكام الفرنسيين للمديريات,
توزيع منشورات باللغة العربية على الأهالي, لإخبارهم بالإحتفال العظيم
الذي أقيم بالقاهرة
و(قد إستمع القائد العام لقصة المولد,
ثم أقبل على الصلاة يحف به كبار المشايخ)!!.
ولم يذكر الجبرتي شيئا عن إحتفال سنة 1215 هـ,
إلا أن جريدة ال (كورييه) تشير في عدد أغسطس سنة 1800
إلى مناسبة المولد النبوي, وتقول:
(مهما تكن آداؤنا الدينية, فالواجب يقتضي بأن نعتبر محمداً
رجلاً يسمو كثيراً فوق بقية الرجال الذين عاشوا عصره ويمتاز عليهم,
وهو بفضل عبقريته ومعارفه وشجاعته أهل لإعجاب الأجيال التالية)
كما عرضت الجريدة جانباً من نشأة الرسول,
وموجزاً لأصول العقيدة الإسلامية.
لقد أدرك الفرنسيون ما للعقيدة من أثر في التنظيم الإجتماعي,
في المجتمع المصري, فأكثروا من إستخدام الآيات القرآنية,
وحرصوا على إحياء الشعائر والإحتفالات الدينية والأعياد القومية,
بل إنهم شجعوا عقيدة الشعب في الكرامات, فشاركوا في الإحتفال
بمولد بعض الأولياء!.
ثم جاء المستشرق البريطاني الشهير "إدوارد لين"
الذي أبدع في دراسة ووصف تفاصيل الحياة اليومية المصرية
في كتابه "شمائل وعادات المصريين المحدثين" على نحو لم يبلغه أحد
من المستشرقين، حتى أنه أتقن لغة الحديث باللهجة المصرية..
وقد وصف لنا الاحتفالات بمولد النبي عام 1834،
فيقول: "تجرى احتفالات المولد في الحي الجنوبي، الغربي من
الساحة الرحبة المعروفة ببركة الأزبكية،
التي تتحول في موسم الفيضانات إلى بحيرة كبيرة،
حيث تنصب خيام وسرادقات للدراويش الذين يجتمعون كل ليلة
للاحتفال وإقامة حلقات الذكر، ويجتمع الناس في النهار
للاستماع إلى الشعراء والرواة، ومشاهدة المشعوذين والمهرجين،
وقد أجبرت الغوازي على التخلي عن الرقص!..
وترى في بعض الشوارع المراجيح وباعة المأكولات والحلوى،
وتكتظ المقاهي بالرواد.
وكانت الليلة الحادية عشرة من الشهر القمري، وكان القمر يشع نوراً
في السماء، فيضفي على الاحتفالات روعة وبهجة..
مررت بشارع سوق البكري لأحضر جانباً من حلقات الذكر،
كانت الشوارع التي مررت بها محتشدة بالجموع الغفيرة،
ولم أصادف إلا القليل من النساء.. وعلقت في المكان بسوق البكري-
الذي شهد تجمعاً ضخماً من الناس "ثريا" رائعة كبيرة
ضمت نحو ثلاثمائة قنديل" ويمضي إدوارد لين مغرقاً
في وصف أدق تفاصيل حلقات الذكر والإنشاد، ومواكب الدراويش،
معرباً عن دهشته من احتشاد الأقباط لمشاهدة تلك الحلقات
التي استمرت حتى أذان الفجر. وفي اليوم التالي شاهد
عرض "الدوسة" المميز الذي يختص به دراويش السعدية، فقال:
"توجهت في اليوم السابق لليلة المولد إلى الأزبكية قبيل الظهر،
فلم أشاهد غير بعض الدراويش والشعراء والمهرجين،
وقد استقطب كل منهم حلقة من المتفرجين،
ثم بدأت جموع الناس تتزايد في انتظار استعراض الدوسة،
الذي يقام كل عام في مثل هذا اليوم..
قصد شيخ الدراويش السعدية -الشيخ محمد المنزلاوي - مسجد الحسين،
بعد أن قضى شطراً من الليلة السابقة في خلوته، مردداً بعض
الصلوات والأدعية الخفية، وبعد أن أدى صلاة الجمعة، توجه
في موكبه إلى دار الشيخ البكري- الذي يرأس جميع طوائف الصوفية
في مصر، وتقع هذه الدار بالجهة الجنوبية لبركة الأزبكية،
وفي طريقه انضمت إلى موكبه، مجموعات من الدراويش السعدية،
وفدوا من قسام مختلفة بالعاصمة، وشيخ السعدية كهل أشهب اللحية،
وسيم المحيا، جميل الهيئة، أبيض الوجه، وكان يلبس في هذا اليوم:
بنشأ وقاووقاً أبيضين، وعمامة من الموسلين الزيتي الداكن اللون،
تعبر مقدمها منحرفة قطعة من الموسلين الأبيض،
وكان يركب جواداً متوسط الارتفاع والوزن،
وإني أذكر ذلك لسبب يتبينه القارىء الآن، ودخل بركة الأزبكية،
يتقدمه موكب عظيم من الدراويش وأتباعه.
[فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل]
وفي طريقه من هذا الميدان، وقف الموكب على مسافة قصيرة
من منزل الشيخ البكري، حيث انبطح عدد كبير من الدراويش وغيرهم -
لم أستطع أن أحصيهم عدا - انبطحوا جنباً إلى جنب،
متلاصقين بقدر الإمكان، وأرجلهم ممدودة وأذرعهم تحت جباههم،
وكانوا يهمسون على الدوام باسم الله، ثم جرى اثنا عشر درويشاً،
حفاة أغلبهم، على ظهور رفقائهم،
وكان بعضهم يضرب الباز ويصيحون: الله ثم دنا الشيخ،
فتردد حصانه دقائق معدودة، قيل أن يطأ ظهر أول المنبطحين،
ولكنه خطا أخيراً بالدفع والحث من الخلف، ثم مشى دون خوف ظاهر،
بخطوة عالية، على ظهورهـم جميعاً، يقوده شخصان،
وكان أحدهما يطأ الدراويش المنبطحين فوق أرجلهم أحياناً،
والآخر فوق رءوسهم، وهتف المشاهدون في الحال بصوت ممدود:
الله!
ولم يظهر علي أحد ممن داسهم الحصان أنه أصيب سوء!-
بل وثب كل منهم واقفاً بعد ما مر الحصان عليه تم تبع الشيخ،
ويقال إن هؤلاء والشيخ أيضاً يستعملون كلمات "أوراداً وأدعية"
في اليوم السابق، حتى يمكنهم احتمال خطى الحصان دون ضرر،
وإن بعضاً لم يتهيأوا كإخوانهم، اجترأوا على الانبطاح فلقوا حتفهم
أو أصيبوا بأذى كبير!
ويعد هذا العمل كرامة، أحدثتها قوة غير طبيعية، منحت لكل شيخ من
شيوخ السعدية بالتتابع.. ويقال أيضاً إن هذا الحصان مدرب لهذا الغرض،
غير أن ذلك يعتبر من الوقائع المثيرة للدهشة،
إذ إن دوس الحصان الآدميين على هذا النحو، هو عمل ينفر منه
الحيوان بشدة كما هو معروف. وقد رفض شيخ السعدية الحالي
عمل الدوسة عدة سنوات، وبعد توسل شديد، أبدى موافقته على
أن يقوم شيخ آخر بطقوسها، والذي نجح في أدائها بالرغم
من أنه كان ضريراً! وقد توفي هذا الشيخ الضرير عقب ذلك،
فاستجاب شيخ السعدية إلى التماس دراويشه، وأصبح منذ ذلك الوقت،
يقوم بعمل الدوسة بنفسه دائماً.. وبعد أدن قام الشيخ بهذا-
العمل الفذ- دون حدوث ما يعكر صوف ذلك اليوم، ركب إلى
صديقه الشيخ البكري، ودخل إلى قصره بصحبة بعض الدراويش"!
وتجدر الإشارة إلى أن الاحتفال بعمل الدوسة، قد أبطل في عهد
الخديو توفيق، كما أشار "أحمد شفيق باشا" في مذكراته، والذي حدثنا
عن حفلة "الأشاير" و"عملية الدواسة".. فقال..
"يجتمع في ذلك اليوم، أرباب الطرق الصوفية، بميدان باب الخلق،
ويسير الموكب بأهم شوارع المدينة، بينهم جماعة من المشعوذين،
منهم من يأكل الزجاج والثعابين، ومنهم من يضرب شدقيه بدبوس
ذي رأس غليظ، في عنف وقسوة، بل كان بعضهم يضع حد السيف
على بطنه ثم ينام فوقه حتى يطأه الشيخ بقدمه!..
وعندما يصل الموكب إلى ساحة المولد أمام صيوان البكري،
يقرأ رجاله كل طريقة الفاتحة وأمامهم شيخهم، وبعد ذلك
ينبطح الكثيرون على وجوهم في صف كبير، ثم يمر فوقهم شيخ
السادة السعدية بحصانه، يقوده اثنان من أتباعه،
وهم يعتقدون أنه سينالهم من جراء ذلك خير كثير،
وكان الناس يروحون عليهم بمراوح يدوية أو بملابسهم.
وقد أبطل الخديو توفيق هذه الحفلات العنيفة".
[فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل]
أحتفالات الطرق الصوفية
دعماً من الخزانة العامة للمساهمة في النفقات، كذلك كانت محافظة
القاهرة وإدارتها تخصص أطناناً هائلة من اللحوم والأرز والزبد والشاي،
أيضاً إدارة الممتلكات الخديوية "الخاصة الخديوية" كانت ترسل أطناناً
من السكر، وتوفر أدوات المطابخ.. وأصبح بيت السادة البكرية
وساحته الشهيرة يشرف برعاية الاحتفال الرسمي بالمولد،
وغدا بديلاً لاحتفالات "الحوش السلطاني" بالقلعة،
وعنهم يقول علي باشا مبارك في خططه: ".. وللسادة البكرية
في ظل الدولة المحمدية العلوية من العناية ما يتحدث بزائد شرفه الركبان،
ويفتخر به هذا الزمان، لاسيما في عهد الحضرة الفخيمية وعصر
الطلعة المهيبة التوفيقية، فإنه وصل فيها الاحتفال بأمر
المولد النبوي الشريف إلى حده الأعلى. وذلك أنه في العشرة الأخيرة
من شهر صفر الخير من كل عام، تصنع بمنزلهم مأدبة فاخرة،
يدعى إليها جميع مشايخ الطرق والأضرحة والتكايا، والوجوه
والأعيان والذوات، فتدخل أرباب الطرق بالطبول والبيارق رافعين
أصواتهم بالذكر والصلاة على رسول الله، ثم يعين لكل واحد من
السادة الصوفية ما يخصه من ليالي المولد الشريف لإحيائه".
[فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل]
يتبع